المال العام والصندوق الانتخابي: الفساد بتوظيف موارد الدولة

في العراق، حيث كل زاوية من الشارع تحمل قصة، وكل حيّ نبت على أرضه حلمٌ وألم، لم يعد موسم الانتخابات مجرد موعد يتجدد كل بضع سنوات، بل صار حدثًا تتأثر به تفاصيل الحياة اليومية في أبسط بيت وأعمق وجدان. تُطل الانتخابات على الناس، فتتبدل ألوان المدينة، وترتفع أصوات الميكروفونات، وتزدهر الوعود في كل ركن، كأنها ربيعٌ عابر يصبغ الواقع بألوان زاهية، سرعان ما تبهت عند أول مطر من خذلان أو تجاهل.

وراء هذا المشهد الاحتفالي الظاهري، تقبع حكاية أخرى، أكثر واقعية ومرارة، حكاية عن كيف يُسخّر المال العام، وتُسْتَغَل مؤسسات الدولة، ويُختزل الوطن كله في صندوق انتخابي، يصبح فيه صوت المواطن سلعة تُشترى بالخدمات المؤقتة أو الوعود الكبرى.

في كل موسم انتخابي جديد، تشهد البلاد حالة من الاستنفار غير المعلن، وكأن الجميع يدرك أن شيئًا مختلفًا على وشك الحدوث. فجأة، تعود المشاريع المتوقفة للحياة، وتزدهر الخدمات في مناطق كانت منسية، وينشط الموظفون في الدوائر الحكومية ليس لخدمة الناس، بل لخدمة مرشح أو حزب.

تتغير الأولويات، وتصبح موارد الدولة أدوات في يد السياسيين، يستخدمونها لتلميع صورهم وتثبيت حضورهم، غير آبهين بأن هذه الموارد ملك للشعب كله، وليست تركة سياسية يتقاسمها الأقوى. ليس غريبًا أن تجد موظفًا بسيطًا يُنقل من مدينته لأنه رفض توزيع منشورات انتخابية، أو أن يُحرم حي كامل من ماء أو كهرباء لسنوات، ثم تنهال عليه الخدمات قبيل الانتخابات، ليُسجل الإنجاز باسم جهة سياسية معينة، ويرتبط مصير الناس بفوزها أو خسارتها.

تتجلى مأساة هذا الواقع حين يتحول المال العام إلى وسيلة ترغيب وترهيب في آن واحد. فبدل أن تكون الانتخابات مساحة للمنافسة الشريفة، والبرامج الواقعية، والحوار الناضج بين المختلفين، تتحول إلى سباق في استغلال مؤسسات الدولة واختطاف مواردها.

لا يعود المواطن شريكًا في القرار، بل يصبح رهينة لموسم من الوعود العابرة، ويظل ينتظر عامًا بعد عام أن تأتي الخدمات من جديد، أو أن يتحقق وعدٌ من تلك الأكاذيب الجميلة التي تُقال كل أربع سنوات.

الدولة والانتخابات: زواج مصلحة أم شراكة حقيقية؟

في قلب المشهد العراقي، حيث تختلط السياسة بالوجدان الشعبي، وتتعقد فيها المصالح مع الأحلام المؤجلة، تأخذ علاقة الدولة بالانتخابات طابعًا فريدًا لا يشبه إلا نفسه. هنا، لا تبدو الانتخابات مجرد ممارسة ديمقراطية دورية ينتظرها المواطن ليعبر عن رأيه بحرية، بل تتحوّل إلى مسرح كبير تصعد عليه كل التناقضات، وتنكشف فيه هشاشة الحدود بين ما هو دولة وما هو حزب، وبين ما هو حق عام وما أصبح، بفعل الواقع، ملكًا خاصًا لدوائر النفوذ السياسي.

حين يقترب موسم الانتخابات في العراق، لا يمكن لأي متابع أن يخطئ علامات التحول على وجه الدولة. البيروقراطيات الصلبة تبدأ بالانحناء أمام رغبات «القيادات»، والموارد العامة تأخذ طريقها نحو مشاريع مؤقتة، وأصوات الناس تُستبدل بهمهمات الحذر أو الانتماء القسري. تصبح الدولة، التي يُفترض أن تكون مظلة للجميع، أداة طيعة في يد من يملك مفاتيح السلطة، وتختفي الفوارق بين المؤسسة الوطنية والماكينة الحزبية، حتى ليصعب على المواطن البسيط أن يميّز إن كان يراجع دائرة حكومية أم مكتبًا انتخابيًا متنكرًا.

في كل دورة انتخابية، يدور العراقيون في حلقة مفرغة من الأمل والتوجس. لوهلة، تظهر الدولة في أبهى صورها: مشاريع تُدشّن في المناطق المنسية، طرق تُعبّد بسرعة، مدارس تُرمم، مساعدات توزع بسخاء، ووعودٌ تنهال كالمطر على أحياء ظلت سنوات طويلة خارج حسابات السلطة. لكن ما إن تُغلق صناديق الاقتراع، حتى تعود الدولة إلى صمتها القديم، وتغلق الملفات، وتختفي الوجوه التي ملأت الشوارع بالابتسامات والشعارات. وكأن الدولة، بكل مؤسساتها، كانت تُستعار مؤقتًا لخدمة حملة انتخابية، ثم تُرد إلى الرفوف فور انتهاء العرس المؤقت.

هذا التحول من دولة المواطنة إلى دولة الحزب أو الطائفة لم يكن نتاج صدفة عابرة، بل هو ثمرة سنوات طويلة من تداخل السلطات، واستبدال القانون بالولاء، والمصلحة العامة بالمصلحة الحزبية. في لحظة الانتخابات، يصبح كل شيء مباحًا: المال العام يُوظف بلا حساب، المرافق الحكومية تُسخر للدعاية، والموظفون يُجبرون على الاصطفاف مع جهة دون أخرى، وإلا وجدوا أنفسهم خارج اللعبة بلا سابق إنذار.

تكمن خصوصية هذا التشوه في أن المواطن العراقي أصبح في كثير من الأحيان يدرك اللعبة، لكنه مضطر للمشاركة فيها. فهو يعلم أن صوته قد لا يغيّر الواقع، لكنه في الوقت ذاته لا يملك ترف الرفض، إذ أن أبسط حقوقه -من ماء وكهرباء ووظيفة- أصبحت مشروطة بالولاء الانتخابي. المشهد هنا ليس فقط صراعًا على السلطة، بل هو معركة يومية من أجل البقاء، حيث تتحول الدولة، بمؤسساتها ومواردها، إلى غنيمة توزع على من يُحسن الاصطفاف في الوقت المناسب.

إنها علاقة مشوهة تتجدد مع كل موعد انتخابي، علاقة لا تُنتج دولة قوية ولا مجتمعًا واثقًا بمؤسساته، بل تكرس ضعف الثقة وتغذي الإحباط، وتجعل من المال العام وسيلة لإعادة إنتاج نفس الطبقة السياسية التي أفرغت الدولة من معناها الحقيقي. وبينما تتجدد هذه الدورة مرة تلو الأخرى، يبقى المواطن العراقي في حالة ترقب وقلق، متسائلًا: متى تعود الدولة إلى معناها الأول، وتصبح الانتخابات أداة للتغيير لا مجرد مسرحية جديدة في موسم الصراع على البقاء؟

استغلال النفوذ: مؤسسات الدولة في خدمة الحملات الانتخابية

في مواسم الانتخابات العراقية، يكاد لا يمر يوم دون أن يتحول روتين العمل في الدوائر الحكومية إلى حملة انتخابية غير معلنة. كثير من الموظفين، خصوصًا من يشغلون مناصب قيادية أو وسطى، يجدون أنفسهم أمام ضغوط مباشرة من أحزابهم أو مسؤوليهم لدعم مرشح محدد أو تيار معين.

تنتشر التعليمات الشفهية: «ساهموا في الحملة، شاركوا في التجمعات، احضروا الفعاليات»، بل أحيانًا يُطلب من الموظفين تعبئة قوائم بأسماء عوائلهم ومعارفهم، وتُوزع عليهم دعايات انتخابية ليقوموا بنشرها في أحيائهم.

تتحول بعض دوائر الدولة إلى ما يشبه الخلايا الحزبية، حيث يكافأ المطيعون بالترقيات أو الاستثناءات، فيما يُهدد الرافضون أو المحايدون بالنقل أو التهميش أو حتى الفصل.

من الظواهر اللافتة أيضاً في كل موسم انتخابي عراقي، عودة الحياة فجأة إلى المشاريع المتوقفة منذ سنوات: شوارع تُعبد، مدارس تُرمم، أعمدة كهرباء تُنصب، شبكات ماء تُصلح، مستوصفات تُجهز، وكل ذلك في وقت قياسي.

لا يتوانى المرشحون عن تنظيم حفلات افتتاح لهذه المشاريع، ونشر صورهم وهم يقصون الشريط الأحمر، حتى لو كان المشروع قد تم بجهد حكومي أو بتمويل خارجي!

يتم تسويق هذه الإنجازات على أنها “هدية” من التيار أو الحزب أو المرشح، ويُطلب من الأهالي دعم من أنجز لهم هذه الخدمات، مع تذكيرهم ضمنيًا بأن استمرار الخدمات مرهون ببقاء الحزب في السلطة أو فوز مرشحيه.

التعيينات والتعاقدات… شراء الولاء الانتخابي

منذ سقوط النظام السابق في العراق ودخول البلاد في حقبة جديدة من التعددية السياسية، تحولت مسألة التعيينات والتعاقدات الحكومية إلى واحدة من أبرز أدوات استقطاب الولاء الانتخابي، وصارت أشبه بعملة سحرية في يد الأحزاب السياسية تتحكم من خلالها بمصير آلاف الشباب الطامحين لما يسد رمقهم أو يفتح لهم باب الأمل في حياة كريمة. لم تعد الوظيفة الحكومية مجرد وسيلة لكسب العيش أو أداء خدمة عامة، بل أصبحت في كثير من الأحيان مكافأة سياسية أو رشوة انتخابية تُمنح لمن يُظهر الولاء، وتُحجب عمن يختار الحياد أو يعارض خط السلطة.

في كل موسم انتخابي، تبدأ المكاتب الحزبية في مختلف المحافظات بحملات مكثفة لاستقبال طلبات التعيين والعقود المؤقتة. يتوافد الشباب حاملين شهاداتهم الجامعية أو الثانوية، وآمالهم الكبيرة معلقة بشخصية حزبية أو نائب نافذ أو حتى موظف صغير في مفصل إداري له صلات قوية بالجهات العليا. يعرف الجميع أن الفرص الوظيفية التي تتاح فجأة في الدوائر الحكومية ليست سوى جزء من لعبة أكبر، وأن الحظ لا يبتسم إلا لمن ينتمي أو يوالي جهة سياسية معينة، أو على الأقل من يستطيع أن يقدم ضمانًا بأنه لن يعارض أو يخرج عن النص.

في المحصلة، تتحول التعيينات والتعاقدات إلى أداة لشراء الولاء الانتخابي، وتكريس النفوذ الحزبي، وتهميش الكفاءات، وإضعاف ثقة الناس بالدولة كمؤسسة جامعة لكل المواطنين. وتبقى النتيجة واحدة: دائرة من الإحباط واللامبالاة، تتجدد مع كل موسم انتخابي، وتعمق الشعور بأن الوظيفة العامة صارت عملة بيد السياسيين، وليست حقًا مضمونًا لكل أبناء الوطن.

المال العام: وقود الحملات الانتخابية

في العراق، أصبحت الموارد الحكومية أداةً رئيسية لتزيين صورة الأحزاب ومرشحيها في عيون الناخبين. ومع اقتراب كل موسم انتخابي، تتبدل أولويات الصرف والإنفاق في الدوائر الحكومية، ويختلط المال العام بمصالح الأحزاب، حتى يصعب على المواطن البسيط التمييز بين ما هو حق للجميع وما هو إنجاز خاص لفئة أو جهة معينة.

تبدأ القصة من مكاتب المسؤولين، حيث تُوجه تعليمات غير مكتوبة لاستغلال المركبات الحكومية في نقل الأنصار والمؤيدين إلى الفعاليات والمهرجانات الانتخابية. وتُسخر المعدات والأجهزة لإقامة مهرجانات أو نصب الخيام واللافتات العملاقة في الساحات العامة، تحت مسمى «خدمة المجتمع» أو «النشاطات التنموية». بل إن بعض الدوائر تُخصص أجزاء من ميزانياتها المقررة للصيانة أو التطوير لصالح طباعة ملصقات أو منشورات انتخابية، أو حتى دفع نفقات ضيافة لوفود حزبية تزور الدائرة بحجة «متابعة المشاريع».

ولا يتوقف الأمر عند حدود المال والمعدات، بل يتعداه إلى الإعلام الرسمي للدولة، الذي يفترض به الحياد والموضوعية. في زمن الانتخابات، يتحول التلفزيون الرسمي والمحطات الإذاعية والصحف الممولة من الدولة إلى منابر دعائية تمجد إنجازات الحكومة الحالية أو الحزب المسيطر. تُعرض تقارير متواصلة عن المشاريع المنجزة، وتُسلط الأضواء على شخصيات حزبية بعينها، وتُهمش الأصوات المعارضة أو المستقلة. حتى حملات التوعية الانتخابية، التي يفترض أن تُشجع المشاركة الحرة والنزيهة، تتحول في كثير من الأحيان إلى دعاية مقنعة لصالح طرف دون آخر، ما يجعل المواطن يشكك في مصداقية الإعلام الرسمي ويزيد من فجوة الثقة بينه وبين الدولة.

هذا الاستغلال الممنهج للموارد العامة في الدعاية السياسية لا يضر فقط بنزاهة العملية الانتخابية، بل يغذي الشعور بالغبن لدى الناخبين، ويعزز قناعة راسخة بأن الدولة ليست سوى غنيمة يتقاسمها الأقوى، وأن المال العام مسخر لخدمة الحملة الانتخابية لا لخدمة المواطن.

غياب الخدمات كورقة ضغط وانتخاب

في العراق، أصبح غياب الخدمات الأساسية في بعض المناطق ظاهرة مألوفة، لكنها تُستغل في كثير من الأحيان كورقة ضغط انتخابية بيد الأحزاب. فالمناطق المهمشة التي تعاني من تراجع خدمات الكهرباء والماء والطرق والصحة والتعليم، تظل لسنوات رهينة الوعود الكاذبة والتبريرات الرسمية، حتى يحين موسم الانتخابات، فتتغير فجأة أولويات المسؤولين، وتتحول الأحياء المنسية إلى ساحات نشاط محموم.

تبدأ فرق العمل الحكومية بالظهور فجأة في الأزقة والشوارع: تُعبد الطرق، وتُصلح شبكات الماء، وتُوزع سلال غذائية أو مساعدات نقدية، وتُرمم المدارس والمراكز الصحية. وترافق هذه الأعمال حملات إعلامية مكثفة تحمل صور المرشحين وشعارات الأحزاب، مع رسائل واضحة أو ضمنية بأن هذه الخدمات هي «ثمرات دعمكم لنا»، وأن استمرارها مرهون بفوز الجهة السياسية المسيطرة في الانتخابات.

لا تقتصر هذه الممارسات على تقديم الخدمات فقط، بل تشمل أيضًا استخدام تلك الخدمات كأداة ابتزاز انتخابي. في بعض المناطق، يُطلب من المواطنين التصويت لجهة سياسية معينة مقابل تلبية احتياج عاجل، كإصلاح محولة كهرباء أو تأمين مياه الشرب أو تعيين أحد أفراد العائلة في وظيفة حكومية. في حالات كثيرة، تُوثق هذه “الهبات” إعلاميًا، ويُطالب المستفيدون بإظهار الامتنان عبر الدعم الانتخابي، ليصبح المواطن رهينة لموسم الوعود، ويدرك أن حقوقه ليست إلا أوراق تفاوض في يد من يملك السلطة والمال.

وهكذا، يتحول غياب الخدمات من عجز إداري إلى سياسة مقصودة لإبقاء المجتمع في حالة انتظار وتبعية، ويصبح الإنجاز الانتخابي عملةً رائجة في سوق الولاءات، بينما يضيع الحق العام في زحام المصالح الضيقة.

نتائج الاستغلال… ضعف الديمقراطية وانعدام الثقة

إن النتيجة الطبيعية لكل هذا الاستغلال الممنهج لمؤسسات الدولة والمال العام في العراق هي ضعف العملية الديمقراطية وانعدام الثقة بين المواطن والدولة. فحين يرى المواطن أن الانتخابات لا تجلب سوى الوجوه ذاتها، وأن الأصوات تُشترى بالوعود أو الخدمات أو حتى المال المباشر، يفقد الإيمان بإمكانية التغيير الحقيقي من خلال الصندوق.

يصبح الامتناع عن التصويت أو المشاركة الشكلية هو الخيار المفضل لقطاعات واسعة من الشباب والمثقفين، الذين يرون أن اللعبة الانتخابية مصممة لخدمة الأحزاب المتنفذة فقط، وأن النتائج محسومة سلفًا لصالح من يملك المال والسلطة. وفي هذه الأجواء، تزدهر شبكات الفساد والمحسوبية، حيث تُكافأ الولاءات الحزبية بالمناصب والوظائف، ويُقصى المستقلون والمعارضون، وتتحول الدوائر الحكومية إلى مكاتب حزبية مغلقة لا تلتفت إلا لمصالح من يديرها.

أما الخدمات التي تُقدم قبيل الانتخابات، فسرعان ما تتلاشى بعد انتهاء الموسم الانتخابي، ليعود المواطن إلى معاناته القديمة من الإهمال والتهميش. ويترسخ شعور عميق بعدم الانتماء، حيث يدرك الجميع أن الدولة لم تعد أمًا راعية للجميع، بل أصبحت ساحة مفتوحة لصراعات المصالح والأجندات الضيقة.

في ظل هذا الواقع، يصبح الإصلاح الإداري ضربًا من الخيال، وتبقى الدولة تدور في فلك الفساد والشللية، ويزداد ضعفها أمام تحديات التنمية والاستقرار.

فن الممكن: استشراف الحلول في زمن التحولات

أمام هذا الواقع المعقد، يبرز سؤال محوري: كيف يمكن الخروج من دائرة استغلال مؤسسات الدولة والمال العام في الانتخابات، وبناء ديمقراطية حقيقية تعيد للمواطن ثقته في العملية السياسية؟

الإجابة تبدأ من إصلاح النظام الانتخابي جذريًا، وتفعيل الرقابة المستقلة على كل مفاصل الدولة، خاصة في المواسم الانتخابية. يجب أن تكون هناك قوانين واضحة ورادعة تجرّم استغلال المال العام أو مؤسسات الدولة لصالح أي مرشح أو حزب، مع عقوبات صارمة تُطبق بلا استثناءات.

ومن المهم أيضًا تمكين الإعلام الحر والمجتمع المدني، ليكونا صوتًا قويًا في فضح التجاوزات وتوعية الناس بحقوقهم. لا بد من إعلام مهني ومستقل يمنح الجميع فرصة متكافئة للتعبير عن أفكارهم وبرامجهم، ويكشف أي محاولة لاستغلال النفوذ أو السلطة في الدعاية الانتخابية.

كما يجب إشراك المواطن نفسه في الرقابة وحماية صوته الانتخابي، من خلال برامج توعية واسعة ودعم قانوني فعّال، يضمن لكل مواطن القدرة على التبليغ عن أي ابتزاز أو استغلال انتخابي دون خوف من الانتقام أو الإقصاء.

وأخيرًا، ينبغي أن تصبح الخدمات العامة حقًا ثابتًا لكل مواطن، لا ورقة مساومة انتخابية. يجب أن تُخطط المشاريع وتُنفذ وفق احتياجات الناس الفعلية، بعيدًا عن أجندات الانتخابات أو مصالح الأحزاب.

هكذا فقط يمكن تحويل الانتخابات من موسم للوعود الزائفة إلى فرصة حقيقية للتغيير، وإعادة بناء علاقة صحية بين الدولة والمجتمع، قائمة على الشفافية والعدالة والولاء للوطن قبل أي حزب أو تيار.

الانتخابات: وهم الإنجاز، حقيقة الاستغلال

ليس من السهل أن يخرج القارئ من رحلة الغوص في تفاصيل استغلال المال العام ومؤسسات الدولة في المواسم الانتخابية من دون أن يشعر بثقل الأسئلة المعلقة في أفق الواقع العراقي. كيف تحوّلت الوظيفة الحكومية من حق مشروع إلى مكافأة انتخابية؟ متى صار الماء والكهرباء ولقمة العيش مشروطة بورقة اقتراع أو شعار حزب؟ ولماذا باتت الدولة – بكل تاريخها ومؤسساتها ومواردها – رهينة صراع سياسي لا يكاد ينتهي إلا ليستأنف من جديد بحلة وأسماء أخرى؟

لقد حاولت في هذا المقال أن ارسم صورة واقعية، بلا تجميل أو مبالغة، لعلاقة معقدة وخطيرة بين السلطة والدولة والمجتمع في عراق ما بعد 2003. ليس الحديث هنا عن حالات فردية أو استثناءات عابرة، بل عن منظومة متكاملة من السلوكيات والممارسات التي ترسخت في بنية الدولة وتغلغلت في تفاصيل حياة المواطن. موسم الانتخابات لم يعد مجرد فرصة للتغيير أو منافسة على البرامج، بل تحول في كثير من الأحيان إلى موسم لبيع الأمل المؤقت، وشراء الولاءات، وتكريس الفجوة بين المواطن والدولة.

في كل مشهد انتخابي، تتكرر الوعود وتتبدل الشعارات، بينما يبقى المواطن رهينة للانتظار و«المساومة» على حقوقه الأساسية. من شارع لم يعبد إلا قبيل الانتخابات، إلى مشروع صحي أو خدمي لا يأتي إلا بحملة صور وابتسامات عابرة، إلى آلاف الموظفين والعقود المؤقتة التي تُمنح أو تُسحب حسب المزاج السياسي. كل ذلك يجري تحت سمع الناس وبصرهم، حتى صار العبث بالمال العام أو مؤسسات الدولة سلوكًا عاديًا، لا يثير الغضب إلا لمامًا، ولا يدفع إلى التغيير إلا نادرًا.

خطورة هذا الواقع لا تكمن فقط في ضياع المال العام وتراجع الخدمات، بل في تآكل فكرة الدولة نفسها. حين يصبح المواطن مضطرًا لبيع صوته من أجل حقه في وظيفة أو خدمة أو حتى كرامة، تتحول الديمقراطية إلى مسرحية بلا جمهور حقيقي، ويصبح الوطن مجرد سوق للمساومات المؤقتة، لا مشروعًا جامعًا لبناء المستقبل والعدالة.

رغم ذلك، فإن هذا الواقع ليس قدرًا محتومًا. ثمة أمل يتجدد في كل مرة يرفض فيها شاب أن يكون مجرد رقم في قائمة انتخابية، وفي كل مرة يصر فيها موظف على أداء عمله بنزاهة رغم الضغوط، وفي كل محاولة من المجتمع المدني والإعلام الحر لكشف الحقائق والدفاع عن المال العام وصوت المواطن.

إن التغيير يبدأ حين يتوقف الناس عن قبول الأمر الواقع، وحين يدرك الجميع أن الدولة ليست ملكًا لحزب أو زعيم، وأن المال العام هو أمانة في أعناق الجميع. الإصلاح ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية، وقوانين رادعة، وإعلام مستقل، ومجتمع يؤمن بأن الديمقراطية لا تقوم على شراء الأصوات، بل على احترام الإنسان وحقوقه وكرامته.

لا شك أن الطريق طويل، وأن المشهد معقد ومليء بالتحديات، لكن العراق -بتاريخه العريق وعزيمة أبنائه- قادر على تجاوز هذه المرحلة إذا ما توفرت الإرادة والرؤية والصبر.

يبقى السؤال الأهم: متى يدرك الجميع أن الوطن أكبر من صندوق انتخابي، وأن المال العام ليس مجرد غنيمة مؤقتة، بل هو حجر الأساس لبناء المستقبل الذي يستحقه العراقيون جميعًا

في النهاية، قد تتغير الوجوه والأحزاب، وقد تتبدل الشعارات والبرامج، لكن الوطن الحقيقي لا يُبنى إلا على مؤسسات عادلة وشفافة، ومال عام مصون، وانتخابات نزيهة تكون فيها الكلمة الأخيرة لصوت المواطن الحر، لا لموازين القوة أو صفقات اللحظة الأخيرة.

وإلى أن يتحقق هذا الحلم، سيظل العراقيون يكتبون فصول حكايتهم مع الديمقراطية، بين أمل يتجدد وخيبة مؤقتة، في انتظار أن يأتي يوم يصبح فيه المال العام حقًا للجميع، وصوت المواطن أداة للفعل لا صفقة للبيع.

Scroll to Top