11 تشرين الأول 2025
سجاد سالم وسردية «الشيعي الوطني»
منذ عقدين، توصي النخب العراقية بضرورة تجاوز المحاصصة، واعتماد مبدأ الكفاءة في مؤسسات الدولة، إضافة إلى التشديد على تعزيز الهوية الوطنية. واستخدمت هذه التوصيات التي تتذيل دراسات الباحثين، وخطابات الإعلاميين والسياسيين، وتدوينات المهتمين بالشأن العام؛ شعارات على غرار «العراق أولًا» و «الولاء للوطن»، فضلًا عن استحضار معانٍ من تشرين 2019، مع دراستها للتأكيد على أهمية الموضوع.
لم يكن هذا النقاش «الوطني» منقوصًا فحسب، بل فشل، أو تغاضى، أو جهل، أغلب الداعين إلى وطنية عراقية. فهم يعملون ضمن منطق البنى الانقسامية ذاتها، التي وفرّت لـ «أحزاب لندن» شرعية سياسية، قبيل وبعد الإطاحة بـ «حارس البوابة الشرقية». إذ تُغّلف الوطنية تلك، بعناصر ثقافية وهوياتية مركّبة. وأحيانًا مذهبية عند الأحزاب التقليدية (كما في مبادرة عمار الحكيم قبل سنوات عن «الوطنية الشيعية»).
يُراد لهذا النموذج أن يترسخ، وتستبدل المواطنة -التي لم تتحقق في العراق بعد- بوصفها العلاقة الناظمة بين المجتمع والدولة، وبين أفراد المجتمع أنفسهم؛ بالنهج «المكوناتي»، الذي يعرّف العراقيين باعتبارهم مجموعات هوياتية (مكونات)، وكل طرف مستقل عن الآخر والدولة، ومكتفي بذاته. وبطبيعة الحال، ينعكس هذا التعريف إجرائيًا على الفضاء العام، دولة وحكومة، ومواطنين.
الدولة هنا، هي مؤسسة تضمن الحقوق المتخيّلة، وتضفي على «المكونات» شرعية سيادية، أي أن «المكون» هو الوحدة السياسية الوسيطة بين الفرد (وليس المواطن) والدولة. والحكومة هي الواجهة التنفيذية التي تقوم بترتيب مطالب «المكونات» وتعمل على تحقيقها. ويتضح هذا بشكل جدي في «ورقة الاتفاق السياسي»، فالأخيرة هي «العقد الاجتماعي» بين الدولة و «المكونات». أما المواطنون، فليسوا مواطنين أمام الدولة، بل أفراد أمام وحدتهم السياسية، المدعومة بسرديات تاريخية، تتضمن عناصر مذهبية ومعتقدات، وجغرافيا، مثل «أبناء الجنوب»، و«أهل الغربية». وهو ما يفضي إلى شروخ اجتماعية، وهشاشة في الدولة والمجتمع، ويفتح الباب، في فرصة مناسبة، لأي توتر أمني، أو استدامة حالة الفساد والفشل المستمرة منذ 2003.
درست «الفلسفة المكوناتية» -وهي اهتمامي البحثي- عبر عدد من الأبحاث، ووجدت أن هذا «النظام المكوناتي»، والمنتفعين منه، يحاولان أن يزجّا بالمفاهيم المستمدة من الفكر السياسي، كالمواطنة، والوطنية، بهذا النموذج المشوّه. ويقدّم لنا وطنية من نوع آخر، وطنية لم يسبق لمنظري الدولة الحديثة أن يعرفوها، عبر تشبيكها -الدولة الوطنية- بسياسات الهوية الطائفية. ونتيجة لذلك، تبقى المحاصصة حتمية مهما بدا الخطاب وطنيًا.
من هذا المعنى، يتم وضع «اللا مكوناتيين»، أو الوطنيين، في خانة تمنع تشكّل حالة وطنية عابرة لحدود «المكونات»، وتحول دون اجتماع العراقيين على قضية وطنية، حتى الظواهر السياسية الفريدة من نوعها تواجه هذا الاختبار الفاصل بين الصعود نحو الوطنية، أو الانخراط بـ «المكوناتية». وهو ما حدث، ويحدث مع سجاد سالم. يقول «مثقف ميليشياوي» إن «وجود سجاد سالم معارضًا محليًا مهم لعدة نواحٍ؛ هو محاولة لتخفيف التوترات والاحتقان (..) يكفي أن سجاد سالم متمسك بمحلّيته، بمحافظته، بتشيعه، جنوبيته، وهو يعارض ضمن هذا الفضاء». ولا أرى ضرورة للتعليق على هذا القول بعد المقدمة أعلاه.
بالمقابل، إذا كان سالم، هو «الشيعي الوطني»، يمكن القول إن «السني الوطني» هو مثنى السامرائي، فهو يتبنى خطابًا «وطنيًا مكوناتيًا»، ويعارض ضمن «محلّيته». يبدو هذا الفهم للوطنية، فهمًا سخيفًا ساذجًا لا يحتمله عقل. إن «الوطنية المكوناتية» التي تُطبخ في مطابخ طائفية تُخفي نفسها، هي أخطر أشكال التزييف السياسي في مرحلة ما بعد الطائفية التقليدية، التي تُخاصم بشكل علني.
يبدأ الرفض أولًا، من أجل دولة مواطنة، برفض النهج والتصورات الفكرية عن الدولة، التي تمثل عقيدة النظام الحالي. وإدراك أن أي تشجيع لسياسات الهوية، هو بمثابة تلميع الخراب المستمر والمحاصصة، وتعزيز الإقطاعيات السياسية في غرب وجنوب العراق، التي يقودها «زعامات المكونات». كما أن الحديث عن المواطنة، ليس فقط لا يستقيم مع «النهج المكوناتي»، بل ويتعارض معه.
سيظل العراق دولة مشوّهة ما لم تُرفض هذه القيم والأعراف السياسية، والدفع باتجاه تحديث أو تغيير هذا النظام، بالوسائل المدنية.

إبراهيم فاضل
مؤسس منصة تغيير وباحث مهتم في قضايا الدولة والمواطنة
