24 أيلول 2025

الثقافة الانتخابية في العراق: عشائر وغيبيات

تشهد الثقافة الانتخابية في العراق تداخلاً بين الاعتبارات التقليدية والانتماءات العقائدية، وما يؤكده الحراك الانتخابي المتصاعد أن الجماعات الأهلية، والمعتقدات لا زالت تؤثر بشكل كبير في التحشيد الانتخابي، مع تأثير واضح على السلوك السياسي. في هذا التحليل، نستعرض الثقافة الانتخابية العراقية، والدور المزدوج للبُنى العشائرية والسلوك العقائدي «الغيبي» في تشكيل توجهات الناخبين وإثارتهم سياسيًا، ومحاولة تقييم انعكاس هذه الظواهر على المبادئ الديمقراطية، ودولة المواطنة.

الثقافة الانتخابية بعد 2003

خلال العهدين الملكي والجمهوري، لم يكن هناك تقاليد راسخة لمنافسة انتخابية حرة، فقد كانت الانتخابات محدودة أو صورية، لا سيما في حقبة البعث. ورغم ذلك، لعبت العشائر دورًا مبكرًا في المشهد السياسي منذ عشرينيات القرن الماضي، حيث ضمّ مجلس الأعيان في العهد الملكي عددًا من شيوخ القبائل ورجال الدين، وسعت الأنظمة المتعاقبة إلى استمالة رؤساء العشائر، ما عزز مكانة الولاءات العشائرية كأدوات للضبط الاجتماعي إلى جانب الولاء الحزبي. بشكل عام، قبيل 2003 لم تتبلور ثقافة انتخابية شعبية بالمعنى الديمقراطي، نظرًا لهيمنة الحزب الواحد وغياب المنافسة الحقيقية.

بعد العام 2003، أُعيد تشكيل النظام السياسي على أسس «تعددية» وانتخابات دورية، إذ شهد العراق 8 انتخابات برلمانية ومحلية حتى عام 2021، لكن تلك الانتخابات لم تُفضِ إلى انتقال سياسي مستقر يخرج بالبلاد من أزماتها البنيوية. فالترتيبات التي رافقت تأسيس النظام الجديد -وعلى رأسها نظام المحاصصة والنهج المكوناتي- كرّست الولاءات الهوياتية بوصفها قاعدة للتقاسم السياسي. وترافق ذلك مع ضعف مؤسسات الدولة وغياب القانون في سنوات العنف الطائفي، ما فسح المجال أمام العشيرة والطائفة لملء الفراغ الأمني والسياسي. في ظل هذه الظروف، تنامت قوة «الجماعات الأهلية»، وبات الاعتماد على الولاءات العشائرية أو المذهبية نمطًا سائدًا لضمان الحماية أو نيل «الحقوق الضائعة».

خلال انتخابات 2005 الأولى بعد سقوط النظام السابق، صوّت الناخبون وفق الاصطفافات الطائفية، بسبب الاستقطاب الحاد وانعدام الثقة بين الفاعلين السياسيين، وغياب المشروع السياسي العابر للهويات. على سبيل المثال، أصدر المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني توجيهات أضفت بُعدًا دينيًا على المشاركة الانتخابية، وحثّ على وجوب التصويت ودعم «المرشحين المتدينين»، بل وشدّد على عدم التصويت لأي قائمة يرأسها شخص غير متدين، وتفادي القوائم الضعيفة حفاظًا على «وحدة الصوت الشيعي». وكانت تلك التوجيهات بمثابة تفويض غير مباشر لـ «الائتلاف العراقي الموحد» ذي الطابع الشيعي، ما أضعف حظوظ القوائم الأخرى، وهكذا تداخل العامل المذهبي في رسم الاتجاهات الانتخابية منذ البداية.

ورغم انحسار حدة النزاع الطائفي المسلح بعد 2008، فإن نمط التصويت القائم على الهوية ظلّ حاضرًا، إلا أن انتخابات 2010 شهدت نجاح قائمة عابرة للطوائف (ائتلاف العراقية) في الحصول على أعلى الأصوات بفضل تنامي الوعي بخطر الانقسام، لكن هذا التوجه لم يترسخ طويلًا. فقد أدت عودة التوترات مع صعود تنظيم داعش الإرهابي عام 2014 وما تلاه، إلى إعادة إنتاج الاصطفافات الطائفية وتعزيز دور الفصائل العقائدية المسلحة في العملية السياسية. ومع ذلك، بدأت بوادر رفض شعبي لهذا الواقع تظهر في احتجاجات 2019 التي قادها الشباب رافعًا شعار الهوية الوطنية الجامعة. وفي انتخابات 2021 انعكس هذا المزاج في تدني نسبة المشاركة، وسط مقاطعة شريحة واسعة محبطة من جدوى الانتخابات. وهكذا، فإن الثقافة الانتخابية العراقية اليوم، هي محصلة صيرورة طويلة من التفاعل بين البُنى التقليدية والهويات العقائدية وبين تطلعات بناء دولة مواطنة.

البُنى العشائرية وتعبئة الأصوات

تتمتع العشيرة بمكانة محورية في البنية الاجتماعية العراقية، وقد انعكس ذلك بوضوح على الثقافة السياسية والانتخابية. ويضم العراق عددًا كبيرًا من القبائل الكبرى التي تتفرع إلى عشائر وأفخاذ، لكل منها «هرمية» تقودها شخصيات تقليدية (الشيخ ورؤساء الأفخاذ) تمارس نفوذًا واسعًا ضمن جماعتها.

تشير دراسات إلى أن القبائل أصبحت بمثابة «رافعة انتخابية ترفع السياسيين إلى مواقع السلطة»، حيث تعمل بالتنسيق مع الكيانات الحزبية لضمان فوز مرشحين معينين يخدمون مصالح الطرفين. وخلال الانتخابات التشريعية لعام 2018 مثلًا، لوحظ بروز هيمنة واضحة للقبائل على العملية الانتخابية، إذ قامت بدور رئيس في الحملات الدعائية، وحشد المؤيدين للمهرجانات الانتخابية، بل واختيار المرشحين من بين أبناء العشيرة نفسها، وكثيرًا ما يجري عقد الاجتماعات والصفقات السياسية في مضافات شيوخ العشائر، حيث يتم التفاوض على الدعم الانتخابي مقابل وعود بتقديم منافع وخدمات لمناطقهم. وبهذا المعنى، تحوّلت العلاقة بين الأحزاب والعشائر إلى تخادم مصلحي، فالشيخ يوفّر «سلة» أصوات جماعته، مقابل حصوله على نفوذ أو مكاسب عبر مرشح الحزب المدعوم.

لقد أدركت معظم الأحزاب هذا الواقع، وسارعت إلى استحداث مكاتب عشائرية ضمن هياكلها، وإلى إرسال وفود لزيارة شيوخ القبائل والتودد إليهم قُبيل كل انتخابات. حتى «الجماعات الإسلامية السياسية» اضطرت لمسايرة المنطق العشائري والتقرب منه، برغم التناقض القيمي بين الجانبين.

وتتجلى خطورة هذا التخادم، في ملء فراغ «الدولة»، والممارسات الديمقراطية المرتبطة بها، وأن حضورها الطاغي انتخابيًا رسّخ الانتماءات الأولية على حساب المواطنة. وبالتالي يمكن القول إن القبيلة في عراق اليوم صارت حزبًا غير رسمي، لديها دوائر نفوذها وقواعدها الشعبية التي تستطيع التأثير في مخرجات صناديق الاقتراع.

تأثير الخطاب العقائدي «الغيبي» في توجيه الناخبين

يلعب العامل العقائدي الديني دورًا بارزًا في تشكيل الثقافة الانتخابية العراقية، والمقصود بـ «الغيبيات» هنا ذلك الجانب الإيماني أو غير المحسوس من السلوك السياسي، حيث يتأثر الأفراد بخطابات دينية أو مذهبية وبنزعات عاطفية وأحيانًا بخرافات سياسية، أكثر من تأثرهم بالاعتبارات البرنامجية الملموسة.

اتسم المشهد الانتخابي العراقي منذ 2003 بغلبة الطابع الهوياتي – العقائدي على اختيارات الناخبين، فمعظم الناخبين صوتوا على أساس الهوية، وليس بناءً على الأداء السياسي أو الرؤى. وباستثناء قلة من الأحزاب المدنية الصغيرة، فإن القوى التي تربعت على السلطة بعد 2005 كانت إما إسلامية شيعية، أو سنية أو قومية كردية، ما يعكس توجهات تصويتية قائمة على الانتماء العقدي والقومي بالدرجة الأولى. وبذلك يمكن القول، إن التصويت العقائدي طغى على التصويت البرامجي في ثقافة الناخب العراقي.

يسير كثير من الناخبين في العراق وفق البوصلة الدينية أو المذهبية التي يحددها لهم المرجع، أو ممثلي الهوية الطائفية. وتتخذ التعبئة العقائدية -غالبًا- طابع التخويف والتحشيد الغيبي، كأن يُصوّر الخصم السياسي على أنه تهديد للدين أو للمذهب، أو يُشاد بمرشح معين بأنه «حامٍ للعقيدة».

كذلك، يلعب الولاء الطائفي المسلح دورًا في توجيه الناخبين عقائديًا، وبعد ظهور الحشد الشعبي والفصائل المسلحة في الحرب ضد داعش الإرهابي، دخلت هذه القوى معترك السياسة بخطاب ديني تعبوي يصوّرها حامية للمقدسات وضامنة لحقوق طائفتها، وتبعها ناخبون كثر وفاءً لفتوى «الجهاد الكفائي» ولرمزية التضحيات. وبالمثل، برزت شخصيات سنية تتكئ على إرث ديني أو «إعادة الاعتبار لهوية مذهبهم بعد سنوات التهميش» لاستقطاب الأصوات في محافظات معينة. كل هذا يعكس مدى تغلغل الذهنيات التقليدية في العملية الانتخابية.

ومن الجدير بالذكر، أن الطبيعة الديموغرافية للقاعدة الانتخابية تسهل تأثير هذه العوامل، إذ وفقًا لـ «النهج المكوناتي» جرى تقسيم العراق بشكل غير رسمي، وربط تطلعات كل جزء و «حقوقه» باسم «المكون» الذي يضم محافظات معينة، تشترك في ذات الخصائص الهوياتية.

الديمقراطية في مأزق

العاملان العشائري والغيبي لا يعملان في معزل أحدهما عن الآخر، بل يتفاعلان بطرق معقدة لتشكيل أنماط التصويت والسلوك السياسي، حيث يمثل كلاهما انتماءً يوفر شعورًا بالهوية والجماعة، سواء كانت هذه الجماعة القرابة (العشيرة) أو الجماعة الإيمانية (المذهب). وفي كثير من الأحيان، يتعاضد البُعدان لتعزيز ولاء الناخب لمرشح معين يجمع بين النسب العشائري المقبول والالتزام الديني أو الرمزي. فالمرشح الذي ينتمي إلى قبيلة كبيرة وفي الوقت نفسه يُظهر تدينًا وقربًا من «المؤسسة الدينية»، يكون أوفر حظًا في كسب التأييد الشعبي.

بالنظر إلى هيمنة تلك الاعتبارات، يبرز تساؤل حول انعكاس ذلك على جودة الديمقراطية وبناء المواطنة في العراق، نظريًا، تتعارض تلك الولاءات مع مشروع دولة المواطنة، وتعيق تطور ثقافة سياسية قائمة على البرامج والمصالح العامة، وتصبح العملية الديمقراطية أقرب إلى آلية لاقتسام مغانم السلطة بين الجماعات منها إلى تنافس ديمقراطي حقيقي. وهذا الواقع، هو جوهر نظام المحاصصة في الحكم، حيث توزّع المناصب والموارد وفق نسب «المكونات».

من ناحية أخرى، يشكل ذلك نموذجًا لـ «مواطنية منقوصة»، حين يصنّف المواطن باعتباره جزءًا من «الرعية» أكثر منه مواطنًا متساويًا مع غيره في إطار دولة المؤسسات.  وهو ما يشير إلى أن استمرار الاعتماد على العشيرة والغيبيات كوسيطين أساسيين في السياسة ليس خيارًا مطروحًا لبناء دولة حديثة. فهذه الولاءات بطبيعتها انتقائية وإقصائية، إذ يشعر الفرد في ظلها بالانتماء الشديد لجماعته، مقابل ضعف إحساسه بالمسؤولية تجاه الوطن.

بناء على ما سبق، يجب أن تبدأ حزمة المعالجات، من إعادة تعريف النظام السياسي، وتجاوز «المكوناتية» التي تفضي بطبيعة الحال إلى المحاصصة، كما أن هذه الإجراءات قد تضع أسس تحول في الثقافة الانتخابية نحو السلوك التصويتي الرشيد المبني على البرامج. وإلى ذلك الحين، من الضروري أن يوجّه النقد بوعي ومسؤولية نحو تصحيح هذه المسارات، لا لمجرد التوصيف أو التشخيص، بل من أجل وضع أسس عملية لتحقيق المواطنة، وتجاوز الولاءات الأولية. إن غياب التحديث، سيجعل العشيرة، والغيبيات بنداءاتها العاطفية والمؤثرة، جزءًا دائمًا من المشهد الانتخابي العراقي، وتعيد إنتاج ذات الأنماط التقليدية وتؤخر بناء مؤسسات الدولة.

لبناء وطن ومواطن

تسعى منصة تغيير الى تعزيز دور المواطن العراقي في المشاركة البناءة في رفع المبادئ الوطنية والمصالح العليا والقيم والإرث والهوية الوطنية الجامعة بالوسائل المدنية.

Scroll to Top