19 آب 2025

لماذا انتزع العراقيون الشرعية من النظام؟

تعد شرعية السلطة مفهومًا محوريًا في الفكر السياسي، إذ ترتبط بمدى قبول الشعب لحق الحاكم في ممارسة السلطة، ومنذ الفلاسفة القدماء وحتى المعاصرين، جرت الإشارة إلى أن الثقة الشعبية هي عماد استقرار أي نظام سياسي. أكد أرسطو أن شرعية الحكومة تعتمد على دستورية الحكم ورضا المحكومين، وأن استقرار الحكم مرهون بتوفير العدالة وتوزيعها بشكل منصف. وشدّد «جون لوك» -أحد منظري العقد الاجتماعي- على أن إخلال السلطة بالتزامها، فإن للشعب حق سحب رضاه وشرعيته عنها، أي أن العقد الاجتماعي يُفسخ إذا انتهكت السلطة حقوق الناس.

مع تطور الفكر السياسي، صاغ يورغن هابرماس مفهوم «أزمة الشرعية» Legitimation crisis في سبعينيات القرن العشرين، لوصف حالة تراجع ثقة الجمهور بالمؤسسات والقيادات. بحسب «هابرماس» فإن النظام قد يحتفظ بسلطته القانونية شكليًا، لكنه يعجز فعليًا عن تحقيق الغايات التي قام عليها. ومن منظور «جان جاك روسو» في العقد الاجتماعي عندما تنفصل الحكومة عن إرادة الناس وتوقعاتهم، تفقد شرعيتها الحقيقية، حتى لو استمرت شكليًا.

عالميًا والحالة العراقية

شهدت العقود الأخيرة انخفاضًا في مستويات ثقة الشعوب بحكوماتها، وحتى في الديمقراطيات الراسخة، تحدثت دراسات عن «أزمة ثقة» عالمية، فقد أشار مؤشر «إدلمان» (2017) إلى أن الثقة بالحكومات حول العالم انهارت إلى مستويات غير مسبوقة، ما أدى إلى موجات من الأحداث الشعبوية في مختلف البلدان. هذه النزعة الشعبوية تمثلت في صعود حركات وقادة يزعمون أنهم صوت الشعب في وجه النخب الفاسدة، مستغلين شعور الجمهور بأن المؤسسات الرسمية لم تعد تمثلهم ولا تحقق مصالحهم.

ولعل أبرز الأمثلة تجلّت في الولايات المتحدة، حيث أدى تشكيك قطاع واسع من الجمهور بمصداقية الانتخابات إلى أحداث مثل اقتحام مبنى «الكابيتول» مطلع 2021. في المكسيك، قوبلت التحقيقات الحكومية في قضية اختفاء 43 طالبًا عام 2014 بتشكيك شعبي واسع، ودفعت الأسر والرأي العام باتجاه تحقيق مستقل بعد اقتناعهم بوجود تستّر حكومي. وفي لبنان عام 2020، عقب انفجار مرفأ بيروت، ساد اعتقاد شعبي بأن الفساد والإهمال الرسمي وراء الكارثة، ورفض الكثيرون تصريحات المسؤولين ووعودهم بالتحقيق، ما أجّج احتجاجات عارمة ومطالبات بمحققين دوليين.

هذه الأمثلة توضح أن ضعف ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة، تنقلهم تلقائيًا للتصديق بفرضيات بديلة -قد تكون أحيانًا نظريات مؤامرة أو شائعات- لكنهم يجدونها أكثر منطقية من تبريرات السلطات التي فقدت مصداقيتها. وتشير دراسات إلى أن انعدام الثقة بالمؤسسات يغذي استعداد الأفراد لتصديق الروايات غير الرسمية، بل والمؤامرات، إذ يبحث الناس عن تفسيرات تتناسب مع قناعتهم بأن السلطة تكذب أو تتستر.

أما في العراق، فإن أزمة الشرعية والثقة تأخذ أبعادًا خاصة، فمنذ 2003 يعاني العراقيون من مؤسسات حكم ضعيفة مخترقة بعوامل المحاصصة والفساد وهيمنة الجماعات المسلحة، وتُظهر التقارير أن الحكم «الديمقراطي» في العراق معطّل فعليًا بالفساد وسطوة الميليشيات وضعف مؤسسات الدولة الرسمية.

أدى هذا الوضع إلى تفشي ظاهرة الإفلات من العقاب، وكثيرًا ما أُغلقت قضايا جرائم واغتيالات بذريعة «عدم كفاية الأدلة» رغم وجود دلائل قوية أو حتى اعترافات. ومع غزارة الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها في هذا السياق، إلا أن مثالًا يستوجب تأمله، في 2021، اعتُقل قائد فصيل مسلح بارز (قاسم مصلح) للاشتباه في اغتيال ناشطين، لكن أُفرج عنه بعد أسبوعين بحجة عدم كفاية الأدلة، عقب استعراض الميليشيات قوتها وتهديدها للمنطقة الخضراء. هذا يبرر رسوخ قناعة العراقيين بأن العدالة معطّلة إذا ما تعارضت مع مصالح القوى النافذة.

في عام 2019 لم تتجاوز نسبة من يثقون بالحكومة في العراق 19% فقط

قضية الدكتورة بان

انفجر الغضب الشعبي في قضية الدكتورة بان، وانتقد بشكل كبير الرواية الرسمية التي وصفت الحادثة بالانتحار، ورأى كثيرون في قرار غلق التحقيق استعجالًا مريبًا، خاصة مع ما تسرّب من معلومات عن وجود كدمات وإصابات على جسد الضحية. لقد تفاعل الكثير من العراقيين مع رواية مضادة تتهم أطراف بقتلها، واعتبروا البيان الرسمي محاولة لطمس الحقيقة.

 ونتيجة لانعدام الثقة المتراكمة، رفض الجمهور نتائج التحقيقات الرسمية ونظر إليها بريبة شديدة، حتى أن أي شخص -سواء مسؤول أو إعلامي- حاول ترويج رواية الانتحار أو الدفاع عن الجهات الرسمية، وُوجه بهجوم عنيف عبر وسائل التواصل بوصفه «متواطئًا» أو مشاركًا في التستر على الجريمة.

 هذا الشك الشعبي، ليس مستغربًا في نظر منظمة العفو الدولية، التي عقّبت بأن السلطات العراقية طالما تقاعست في تجريم العنف الأسري وتخفيف عقوبات ما يسمى بجرائم الشرف، وتهاونت المحاكم في معاقبة قتلة النساء، ما خلق بيئة من الإفلات تشجع استمرار تلك الجرائم.

لقد بلغ الوضع درجة يرى فيها المواطن العراقي أن كل ما يصدر عن هذا «النظام المكوناتي» مشكوك فيه، إذ أصبح عالم المعلومات الموازي الذي نشأ لدى «المواطنين الرقميين» يملؤوه مزيج من الحقائق والتسريبات ونظريات المؤامرة، لكنه بالنسبة لهم أكثر مصداقية من بيانات الحكومة. وبقدر ما يمنح هذا الشعور قوة آنية للمواطنين، فإنه مؤشر خطير على انهيار العقد الاجتماعي بين النظام والمجتمع.

الشعب بديل عن السلطات

الشعب الغاضب الذي يشعر أن السلطة خدعته أو عجزت عن إنصافه، تحول إلى محقق وقاضٍ، بل وحتى منفّذ للأحكام في بعض الأحيان، وفق مبدأ «آخذ حقي بأيدي». لكن ما دوافع العراقيين لانتزاع هذه الأدوار؟

يرى علماء الاجتماع أن هذا السلوك ينتشر في حالة «الأنومي» أو غياب المعايير، أي عندما تنهار الثقة في القوانين الرسمية وتصبح بلا معنى أمام الواقع الظالم. فعند إحساس المواطنين بأن المؤسسات عديمة الجدوى أو منحازة للفاسدين وأصحاب النفوذ، فإنهم يفقدون الإيمان بجدوى اللجوء للقضاء الرسمي أو انتظار تحرّك الدولة. هنا يظهر ما يُسمى «عدالة الشعب» أو «القصاص الجماهيري».

من الإنصاف القول إن هذا التدخل الشعبي قد ينطلق من شعور مشروع بالظلم ورغبة في سد فجوة العدالة. حيث تؤكد الحالة العراقية أن ضغط الرأي العام أسهم بإعادة فتح تحقيقات أغلقتها السلطات «لنقص الأدلة» كما زعمت. وكثيرًا ما أدى الضغط الجماهيري واهتمام الإعلام المستقل إلى كشف حقائق دفينة، أو إرغام المسؤولين على اتخاذ إجراءات ما كانوا ليتخذوها دون ذلك الضغط.

بيد أن الوجه الآخر لهذه الظاهرة هو خطورة تحولها إلى ما يشبه الفوضى، فالشعب حين يحكم بنفسه دون ضوابط أو مؤسسات، قد يقع في أخطاء جسيمة أو يندفع للعنف الأعمى ظنًا منه أنه يقيم الحق.

الظاهرة ومآلاتها

المشهد المحتقن الذي ظهر في القضية الأخيرة حين حلّ «شعب المحققين» محل المحققين الرسميين، ما هو إلا عرض من أعراض مرض أعمق، وهو أزمة شرعية النظام الحاكم وانهيار الثقة الشعبية به.

هذه الظاهرة تعني عمليًا أن النظام فقد أحد أهم أسس بقائه، وهو القبول الطوعي من المجتمع. فعندما يصل الشك العام إلى درجة أن يتولى الناس بأنفسهم توجيه دفة التحقيق والقضاء -أو على الأقل يصدرون حكمهم- فهذا انتزاع واضح لشرعية كانت ممنوحة للدولة ضمنيًا.

لكن تجدر الإشارة إلى أن انتزاع الشرعية من قبل الشعب ليس حلًا مستدامًا بذاته، فهو سلاح احتجاجي أو مؤقت قد يفلح في الضغط على السلطات أو حتى إسقاطها إن تطور الأمر لثورة شاملة. لكن ما لم تتشكل بدائل مؤسسية شرعية بعد ذلك، قد تنزلق الأوضاع إلى الفوضى. لذا فإن فهم هذه الحالة يجب ألا يقتصر على رصدها كظاهرة، بل ينبغي التفكير في مآلاتها وكيفية معالجتها.

أما إذا استمر النظام في طريق إنكار المشكلة أو قمع الأصوات الغاضبة، بدلًا من معالجة أسباب الغضب، فإنه بذلك يدفع الناس أكثر فأكثر نحو تولي زمام الأمور بأنفسهم. ولن يكون النظام بمأمن من هذا الغضب.

إن المهمة الكبرى أمام النخب الوطنية، هي ترجمة هذا الغضب والفراغ الشرعي إلى مشروع بناء دولة جديدة، دولة عقد اجتماعي جديد، عماده العدل والثقة المتبادلة بين الشعب والحكم. بدون ذلك، ستظل هذه الحلقة المفرغة تدور بكل ما تحمله من مخاطر على استقرار العراقيين ومستقبلهم.

لبناء وطن ومواطن

تسعى منصة تغيير الى تعزيز دور المواطن العراقي في المشاركة البناءة في رفع المبادئ الوطنية والمصالح العليا والقيم والإرث والهوية الوطنية الجامعة بالوسائل المدنية.

Scroll to Top