حينما يُفرغ الشرف من معناه.. العراق بين فوضى الراعي وتيه الرعية

من منطلق الحديث النبوي الشريف «كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه»، نستطيع أن نفهم كيف تسير المجتمعات حين يكون الراعي فاسدًا أو غير مؤهل، فالرعية حينها تسير على درب التشظي والتيه، لا على نهج بناء واستقامة. هذا بالضبط ما حدث في العراق بعد التحول نحو النظام الديمقراطي الجديد، حيث أمسكت السلطة بيدها أدوات التغيير، لكنها استعملتها في تفتيت المجتمع بدل توحيده.

لقد أنتجت هذه المرحلة انقسامات مجتمعية عميقة، غذّتها الأحزاب السياسية الحاكمة، لا بدافع التمثيل أو الحقوق، بل خدمة لأهداف انتخابية ضيقة. عمدت هذه الأحزاب إلى صناعة جماهير «مُسيّرة»، تم تشكيلها على أسس طائفية وقومية وتقسيمات سياسية، خارجة عن القيم الأخلاقية والأعراف الراسخة في المجتمع العراقي.

واحدة من أخطر هذه الهجمات تمثّلت في العبث بالمفاهيم الجوهرية التي بُني عليها الضمير الجمعي، وعلى رأسها مفهوم «الشرف»، ذلك الرمز الثقافي والأخلاقي الذي لطالما اعتُبر من المقدسات المجتمعية، خصوصًا فيما يتعلق بالمرأة العراقية. لقد جرى تفريغ هذا المفهوم من مضمونه، وتداوله بشكل مبتذل حتى فقد أثره وهيبته.

من منظور علم النفس، يُعرف هذا السلوك بـ «تأثير التعرض المفرط» أو Overexposure Effect، حيث تؤدي كثرة تكرار المفهوم او الكلمة- دون احترام أو مضمون حقيقي- إلى التبلّد في التفاعل معه. هكذا، أصبح الحديث عن الشرف مبتذلًا، بل مادة للسخرية في بعض الأحيان، بعدما كان أحد أعمدة القيم الاجتماعية.

في السنوات الأخيرة، لم يعد غريبًا أن نسمع عن أستاذ جامعي يُساوم طالبة على درجاتها مقابل مطالب لا أخلاقية، أو مدير يضغط على موظفة مستضعفة مقابل «فرصة» أو «علاوة»، أو شرطي يتحول من راعٍ للأمن إلى مبتزّ، يساوم امرأة لجأت إليه هربًا من ظلم المجتمع أو العائلة. هذه أمثلة صادمة لكنها لم تعد استثناءً، بل بدأت تتكرر بشكل مقلق، وسط صمت مريب وتطبيع تدريجي مع الانحراف.

ومع مرور الوقت، لم يقتصر الانهيار على هذا المفهوم فقط، بل امتد ليطال مجمل ما يمكن تسميته بـ «الدوزنة المجتمعية». تلك المنظومة غير المكتوبة من القوانين العرفية والسلوكيات الأخلاقية التي ضمنت استقرار المجتمع لسنوات طويلة. لقد تم تقويضها بالفوضى، والتهريج، وتعميم السخرية، حتى بات من يتحدث عن الأخلاق والقيم يُنظر إليه كمن يعيش في عالم منفصل.

لقد كُسرت التابوهات الإيجابية الواحدة تلو الأخرى، لا عن طريق التنوير، بل عن طريق التهريج، حتى بتنا أمام مشهد مجتمعي فوضوي، يشبه الفوضى الذهنية التي تعيشها بعض النخب الحاكمة.

واليوم، يقف المجتمع العراقي أمام مفترق خطير: فإما أن يُصار إلى مواجهة هذه الانحرافات بمعالجات جادة، أو يُترك الباب مفتوحًا أمام مزيد من الانهيار القيمي.

إن مهمة التصدي لهذه الموجات من الهدم القيمي، ليست مسؤولية الأفراد وحدهم، بل هي مسؤولية جماعية تبدأ من الدولة. يجب أن تُشرع قوانين تحمي الهوية المجتمعية العراقية، وتُجرم من يتعمد الإساءة إلى الأسس الثقافية والأخلاقية، بما في ذلك المفاهيم الراسخة مثل الشرف والكرامة والاحترام. كما تقع مسؤولية كبيرة على عاتق النخب الثقافية والدينية والاجتماعية، التي ينبغي أن تستعيد دورها في التوجيه والإصلاح بدل الانسحاب أمام ضجيج الفوضى.

فالحفاظ على ما تبقى من القيم العليا في المجتمع، ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية، إن أراد العراق أن ينجو من تيه الحاضر، نحو مستقبل أكثر استقرارًا وعدالة.

Scroll to Top