الجيش العراقي بين الهجمات الإعلامية ومحاولات الإضعاف

منذ عقدٍ من الزمن، تتوالى محاولات النيل من الجيش العراقي والإساءة إليه على ألسنة بعض السياسيين وأدواتهم، وآخر تلك المحاولات ظهرت قبل أيام على احدى الفضائيات العراقية، حين خرج أحدهم ليهاجم الجيش بأسلوب غوغائي يفتقر إلى أدنى درجات الموضوعية، وأنت تستمع إلى مفردات هذا الخطاب العدائي، لا يسعك إلا أن تتساءل هل يتحدث هؤلاء عن جيشٍ آخر غير الجيش العراقي الذي نعرفه، ذلك الجيش الذي سطّر ملاحم البطولة بدماء أبنائه عبر تاريخه العريق.

تاريخ مشرف بالتضحيات الخالدة

فالجيش العراقي يعد جزءًا أصيلًا من نضالات الأمة العربية، حيث امتزجت دماء جنوده بتراب فلسطين دفاعًا عن قضيتها العادلة، ووقف سدًا منيعًا في الأردن في عام 1967، وساهم بفعالية في دعم القوات المصرية خلال حرب أكتوبر 1973، بل وكان له الدور الحاسم في التصدي للهجوم «الإسرائيلي» على دمشق.

وفي الحروب التي خاضها دفاعًا عن أرضه، لم يدّخر الجيش العراقي جهدًا، فتمكّن من حماية بلاده من الاحتلال الإيراني إبّان الحرب العراقية-الإيرانية، كما سطّر في معارك سقوط بغداد بطولات خالدة، قدم خلالها تضحيات جسامًا أثبت فيها الجندي العراقي صلابته وبسالته.

لا تكمن عظمة الجيش العراقي في الحروب التي خاضها دفاعًا عن الأمة أو شعبه فحسب، بل تمتد جذورها إلى نشأته الوطنية الأولى، فقد أسسه ضباط أكفاء، رغم شح الموارد وقلة التسليح، وكان هؤلاء القادة حريصين منذ البداية على ترسيخ معايير أخلاقية ووطنية صارمة في الانتماء إلى هذه المؤسسة العريقة.

بدأ ذلك مع افتتاح المدرسة العسكرية الملكية في 10 مايو 1924، والتي مثّلت نقطة الانطلاق نحو احترافية الجيش العراقي، حيث لم يُقبل فيها سوى 75 تلميذًا، وفق معايير صارمة شملت التفوق الأكاديمي، والبنية الجسدية القوية، والسمعة الطيبة، بالإضافة إلى اشتراط ألا يكون أحد من أقاربهم مشتهرًا بسوء الخلق، ويتناول المؤرخ عبد الرزاق الحسني في كتابه تاريخ العراق الحديث بشكل أوسع الروح الوطنية والأخلاقية التي بُني عليها الجيش العراقي، مشيرًا إلى أن “الجيش لم يكن مجرد قوة عسكرية، بل كان مشروعًا لبناء وطن، يضم نخبة من الضباط الأبطال الملتزمين بالقيم الوطنية.”

تحت هذه المبادئ الوطنية، استمر بناء الجيش العراقي ليكون في طليعة المدافعين عن قضايا الوطن، فقد تصدى الجيش للقوات البريطانية في ثورة مايس 1941 بقيادة رشيد عالي الكيلاني، والتي مثلت انتفاضة ضد الهيمنة البريطانية، ولم يكن ذلك الفصل الأخير، حيث ساند الشعب في انتفاضته ضد معاهدة بورتسموث عام 1948.

لا شك أن هذا التاريخ المشرف رافقه بعض الإخفاقات، لعل أبرزها أنه كان أول من أرسى لغة الانقلابات العسكرية في المنطقة، مرورًا بعدد من المحطات التي لم يُوفق فيها وصولًا إلى احتلال العراق عام 2003.

 إلا أنه وبرغم ذلك ظل العراقيون ينظرون إلى جيشهم باعتزاز وتقدير، مدركين أهميته كركيزة أساسية لحماية الوطن، فلم يسبق في مختلف المراحل السياسية من تاريخ العراق الحديث أن تجرأ معارض أو مؤيد للنظام السياسي في داخل العراق على مهاجمة الجيش العراقي بهذا الشكل المباشر والوقح كما يحدث اليوم.

التحديات الداخلية والمؤامرات الخارجية

لم يكن قرار بول بريمر بحل الجيش العراقي مجرد خطأ تكتيكي، بل كان خطوة مدروسة تهدف إلى تمزيق الهوية الوطنية وإضعاف العراق استراتيجيًا، وهو أمر وثّقته مراكز القرار الأميركي، فواشنطن، ومن بعدها طهران، سارعتا إلى تقويض المؤسسة العسكرية العراقية، كلٌّ بطريقته الخاصة.

حيث بدأت أميركا أولى خطوات تدمير الجيش العراقي عبر الحل والتفكيك، فيما تكفلت إيران عبر أدواتها بمحاولة زرع الطائفية داخل مؤسسات الجيش، وفرض سياسات الفساد والمحاصصة والدمج، مما أدى إلى تراجع الكفاءة القتالية والانضباط العسكري.

بالمقابل إقليميًا، لم تدخر بعض الدول جهدًا في إبقاء الجيش العراقي في دائرة الضعف والتفكك، لأن وجود جيش عراقي قوي يعني وجود عراق مستقر وذي سيادة، وهو ما لا يخدم مصالح كثيرين.

أما داخليًا، فقد لعبت القوى السياسية المختلفة أدوارًا متباينة في إضعاف الجيش، حيث سعت بعض الأحزاب الشيعية إلى صبغه بالطابع المذهبي بما يتماشى مع توجهاتها السياسية، في حين عملت بعض القوى الكردية بالتعاون مع لوبيات عربية على عرقلة تطوير قدراته العسكرية، من خلال الضغط على واشنطن لعدم إبرام عقود تسليح لصالح وزارة الدفاع العراقية خشية أن يتحول الجيش إلى قوة تمتد من الشمال إلى الجنوب، أما البعض الاخر من القوى السنية، فقد وجدت نفسها في موقف معادٍ أو مواجهًا للجيش، بدلاً من تبني مواقف وطنية تتجاوز الاستقطاب الطائفي.

بالتالي، كان غياب الموقف الوطني لدى هذه القوى، وخاصة الممسكة بالقرار، بالإضافة إلى انعدام الفهم العميق للقرارات العسكرية تجاه هذه المؤسسة، نتيجة حتمية ألقت بظلالها على إخفاقات الجيش العراقي، وقد انعكس ذلك سلبًا على الأداء الميداني، مما أسهم في انتشار الإحباط في صفوف الضباط والمقاتلين وساهم في سقوط العديد من المدن بيد تنظيم داعش.

وبمراجعة أوسع لسياق الاستهداف، يتضح أن المحاولات الهادفة لإحباط الجيش والنيل منه لم تقتصر على المستوى السياسي والعسكري فحسب، بل امتدت أيضًا إلى العقل الجمعي للمجتمع العراقي وأبناء مستقبله، فقد تم حذف المئات من العبارات التي تربي الأجيال على دور الجندي العراقي وعظمته في المناهج الدراسية، فضلاً عن تغييب الخطاب الوطني الذي يدعم الجيش، وذلك لإضعاف صورة الجيش العراقي وإعادة تشكيل وعي جديد يتقبل فكرة جيش ضعيف بلا هوية وطنية راسخة.

ويتضح أيضًا أن استهداف الجيش العراقي لم يقتصر على الهجمات الإعلامية المعتادة فحسب، بل امتد إلى سياقات أخرى، اذ تسعى بعض القوى الفاعلة اليوم إلى تقزيم هذه المؤسسة ودورها وتضحياتها مقابل تضخيم أدوار الفصائل المسلحة بمختلف أشكالها، حيث تهدف هذه المحاولات إلى خلق بدائل للجيش العراقي.

 متجاهلين أن أي قوة عسكرية، مهما بلغت شعبيتها أو مستوى تعبئتها، لا يمكن أن تحل محل الجيش في عقل الدولة والمجتمع، وهذا لا يعني الانتقاص من أي جهة أخرى، بل هي حقيقة ثابتة؛ فمن الممكن تعزيز دور أي مؤسسة أمنية، لكن ليس على حساب إضعاف مؤسسة أخرى مثل المؤسسة العسكرية، لأن منطق استبدال مؤسسة بأخرى هو مغامرة بمصير الشعب العراقي، ومجازفة مكلفة على كافة الأصعدة، تؤدي الى تعزيز الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية.

فضلاً عن أن السياق العسكري يرى في هذا النهج حماقة شعبوية لا تخدم سوى تفكيك المؤسسات الوطنية وإضعاف هيبة الدولة، فالحاجة إلى الجيش في أي دولة ليست مجرد مسألة تأمين أو حماية، بل هي ركيزة متجذرة في الهوية الوطنية والانتماء، بالإضافة الى السياقات الفنية المتعلقة بالتجهيز والتسليح والتنظيم العسكري والتعاون الدولي والإقليمي تجعل من الجيش القوة الأقدر على حماية الدولة، مهما برزت بالمقابل قوى أخرى في المشهد الأمني، إذ تبقى هذه القوى محدودة التأثير أمام القوة المعنوية والقتالية للمؤسسة العسكرية الوطنية.

مسؤولية المواطن تجاه المؤسسة العسكرية

في المرحلة الحالية، ومع استمرار استهداف الجيش العراقي يصبح دور المواطن أكثر أهمية من أي وقت مضى، خاصة في ظل الاستقرار الأمني الذي بدأنا نلمسه، اذ من الضروري أن يعي المواطن مسؤولية الحفاظ على سمعة ومكانة الجيش العراقي، وأن يتعامل مع هذه المسؤولية باعتبار الجندي العراقي رمزًا تاريخيًا وبطلًا يحمي الحاضر والمستقبل.

حيث ان قوة الجيش العراقي واستقلاليته هما الركيزة الأساسية لضمان الوحدة الوطنية العراقية لبناء عراق مستقر، وهي حقيقة أدركها القادة الأوائل خاصة الملك فيصل الأول، الذي وعى أهمية هذه المؤسسة، وأكدتها التجارب والتحولات التاريخية اللاحقة، ومن هذا الفهم العميق يجب أن يُنظر إلى الجيش العراقي بوصفه رمزًا لسيادة الدولة وضمانة وحدتها، وليس مجرد قوة نظامية؛ فأي محاولة للنيل منه تعني النيل من العراق نفسه.

بالمقابل، يقع على عاتق الضباط والقادة داخل هذه المؤسسة مسؤولية اتخاذ موقف واضح تجاه كل من يحاول التشكيك بها أو الانتقاص من دورها، وذلك من خلال العمل على إنشاء نقابات أو جمعيات تُعنى بحماية تاريخ الجيش وتضحياته، والسعي إلى محاسبة من يسيء إليه تحت أي ذريعة، كما ينبغي الدفع نحو إصدار تشريعات تعزز قوة ومكانة هذه المؤسسة، بحيث تُبنى وفق معايير وطنية تعكس تطلعات العراقيين وتاريخهم العريق.

محمد رجا

كاتب صحفي، مهتم في الشأن السياسي والاجتماعي العراقي

Scroll to Top