صناعة الرمزية الشعبوية: من أبو عزرائيل إلى مصطفى سند

صناعة الشخصيات الرمزية تُعدّ واحدة من أكثر الأدوات تأثيرًا في الحروب والنظم السياسية، حيث تتحول هذه الشخصيات إلى رموز تجسد القيم والمبادئ التي تسعى الأمم أو الحركات لتحقيقها، حيث في سياق الحروب، تلعب هذه الشخصيات دورًا في توحيد الشعوب وتعزيز روح المقاومة والصمود، بينما في السياسة تُستخدم كوسيلة لتوجيه الرأي العام، وبناء الهوية الوطنية، وتعزيز القيم الديمقراطية، بما يسهم في ترسيخ الاستقرار المجتمعي، وتحفيز المشاركة السياسية، ودفع عجلة التنمية، والنهوض بقدرات الدولة ومؤسساتها نحو الأفضل.

أما في العراق، فقد أخذت الرمزية منحًى مختلفًا عن مفهومها التقليدي، إذ لم تُصنع كأداة مُخطط لها بعناية لتعزيز الهوية الوطنية أو رمزية للتنمية والإصلاح، بل جاءت في الغالب كردّة فعل على رمزية أخرى غير موفقة، حيث نشأت الرمزية الأولى في سياق تعقيدات الواقع السياسي السني وتحولاته، لتأتي الرمزية الشيعية برموز مضادة من قبل قوى الإطار التنسيقي التي تبنت هذه المهمة، حيث عملت على صناعة شخصيات رمزية، بعضها عسكرية وأخرى سياسية، لتحويل هذه الرمزية من أداة يُفترض أن تساهم في بناء خطاب وطني وردّ إيجابي على الرمزيات الأخرى، إلى «كلاسيكو» قائم على الدوافع الطائفية والمصالح الضيقة، حتى أصبحت عبئًا على الساحة العراقية، خاصة مع ما تتبناه من مواقف وخطابات غير متزنة تعمّق الانقسام وتعزز خطاب الكراهية، بل وتثير الجدل إلى حدٍّ لم يسلم حتى بعض داعميها من تداعياته.

الرمزية العسكرية من شاكر وهيب إلى أبو عزرائيل

لعبت الرمزية العسكرية دوراً بارزًا في عمل التنظيمات الإرهابية والمسلحة في العراق، خاصة تنظيم «داعش» الذي تبنى هذا النهج في محطات كثيرة من تاريخه، حيث سعى التنظيم، مع سيطرته على مساحات واسعة من العراق، إلى تصدير شخصية رمزية تحمل بعدًا يتجاوز الأهداف العسكرية إلى مستويات التأثير النفسي والإعلامي، من بين تلك الرمزيات التي صدرها بشكل دموي هو الإرهابي «شاكر وهيب» من سكنة محافظة الانبار ، حيث برز كرمز شعبي لدى التنظيم، يظهر في عدة إصدارات إعلامية نشرها التنظيم مرتديًا زيًا عسكريًا وقبعة تشبه تلك التي اشتهر بها تشي غيفارا، وأحيانًا أخرى بعمامة سوداء وسلاح كلاشينكوف لا يفارقه، وهو يوجه تهديدات بالذبح والعقاب لكل من يعترض عليه من العراقيين.

كانت استراتيجية التنظيم تهدف من خلال صناعة رمزية الوهيب إلى تحقيق هدفين رئيسيين الأول هو توجيه رسائل مبطنة إلى الشباب السني بتقديم «الوهيب» كأيقونة جهادية ذات خلفية محلية تحمل رمزية إجرامية تهدف إلى استقطاب الطامحين والمتذمرين للانضمام إلى صفوف التنظيم باعتبار «وهيب» أنه «رامبو» التنظيم، والثاني هو مخاطبة خصومه من القوات الأمنية والحشد الشعبي والعشائري عبر خلق صورة رمزية توحي بالتحدي والتصدي لقتالهم في محاولة لتعزيز صورة التنظيم العسكرية.

هذه الاستراتيجية دفعت بعض قيادات الإطار التنسيقي إلى البحث عن رمزية موازية لتحقيق نفس الهدف الذي أُنشئت من أجله رمزية «الوهيب» في التنظيم، فبدلاً من أن تقوم بخلق رمزية تعزز دور الجندي العراقي وتقدّر تضحياته، بما يسهم في تعزيز مكانة الجيش العراقي وتقوية تأثيره في ميدان القتال، وتحفيزه على الاستمرار في الدفاع عن الوطن، الا انه وقع الاختيار على شخصية «أبو عزرائيل» لتملأ هذا الدور، خاصة مع ما يمتلكه من مقومات جسدية، فهو مفتول العضلات، وحليق الرأس وكثيف اللحية، بالإضافة إلى خلفيته الشعبية كونه قريب من طبقة أبناء “الخايبة” الذين لا يترددون في التضحية بدمائهم، كما أن أسلوبه الشعبوي الفريد كان له دور في ترويج شخصيته، حيث وظَّف أدوات رمزية مثل الفأس والسيف، وابتدع عبارات شعبية جديدة مثل “بالبايسكيل” و”إلا طحين” التي تحولت إلى شعارات مشهورة لدى العديد من العراقيين ضد «داعش»، ومع تعزيز حضوره الإعلامي القوي عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ليبرز «أبو عزرائيل» كرمز لمواجهة التنظيم الإرهابي، جامعًا بين الشعبية والدور العسكري في ظل تراجع واضح لرمزية الجندي العراقي في الملحمة العراقية ضد «داعش».

 لكن مع انحسار المعارك وبدء مرحلة الإعمار، خفت الأضواء عن «أبو عزرائيل» الذي اعتاد على الظهور الإعلامي المتواصل، وراح يحاول تعويض هذا الغياب من خلال الظهور الإعلامي عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو من خلال تصريحات غير موزونة، كمهاجمته السعودية أو سوريا أو تهديده للعاملين الأتراك في العراق وغيرها من المواقف وحتى سلوكيات قام بها نددت بها الأطراف التي ينتمي إليها.

مع مرور الوقت، لم يتوقف عن هوس التمسك بالأضواء فحاول تعويض ذلك من خلال إدمان مواقع التواصل الاجتماعي، حيث اتجه إلى أن يقدم بشكل شبه يومي بثًا مباشرًا من سيارته وهو يمارس تحولات مسرحية في أدواره فمرة مقاتل، ومرة ناقدًا للحكومة، وأخرى مصلحًا اجتماعيًا، ومرة مفتيا دينيًا، ومرة شخصية وطنية وأخرى طائفية، ومرة شابًا عصريًا، ليحول نفسه من رمزية مقاومة شعبية حظيت باحترام شعبي واسع لفترة طويلة إلى شخصية جدلية غير متزنة، تفتقد رمزيتها التاريخية وتتحول إلى ظاهرة فيسبوكية وعبئًا ليس فقط على مستقبل السلم المجتمعي، بل أيضًا على بعض القوى التي دعمت وأنشأت رمزيته نتيجة مواقفه المتناقضة.

الرمزية السياسية من الحلبوسي إلى مصطفى سند

أدى صعود محمد الحلبوسي، كنموذج سياسي شاب، إلى ظاهرة لافتة ألهبت خيال الشباب العراقي، خاصة في محافظات الجنوب، حيث ان لباقة الحلبوسي، حركاته الديناميكية، ومظاهره التي تجمع بين الثراء السياسي والحنكة والدهاء، وغيرها من المقومات التي امتلكها، جعلت منه مزيجًا مؤثرًا استطاع أن يحدث صدى واسعًا بين الشباب، خاصة مع توظيفه الفعّال للإعلام للترويج لنفسه كقائد يخدم محافظاته ومناطقه.

الأمر الذي أثار مخاوف لدى قادة الإطار التنسيقي من ارتدادات تأثير الحلبوسي على الشباب في تلك المحافظات، وأظهر عجزًا حقيقيًا لديهم بسبب عامل العمر، فلم يتمكنوا من مواكبة الزخم والتأثير الذي أحدثه بفضل توظيفه لأدوات ريادية في العمل السياسي، حيث شعروا بصعوبة تقديم خطاب يوازي النموذج الذي يقدمه الحلبوسي، القادر على التأثير في الجماهير، خاصة الشباب، وتقليص نقمتها تجاه هذه القيادات، بالإضافة إلى التحول الحاصل الذي يتطلب وجهًا شابًا يتفاعل مع تطلعات الناس ويقوم بممارسات سياسية تتناسب مع مرحلته العمرية، وهو ما يتعذر على كبار السن من هذه القيادات القيام به أو الترفع عن القيام به.

لمواجهة هذا الواقع، اتجهت قيادات الإطار التنسيقي إلى تصدير رمزية سياسية شبابية جديدة تعكس تطلعاتها وتدافع عن سياساتها، مع القدرة على الظهور بمظهر الثوري القريب من الشعب، جاء الخيار على النائب مصطفى سند ليتولى هذه المهمة، من خلال ظهوره المتكرر في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، متبنيًا خطابًا مزدوجًا؛ فهو تارة يظهر بمظهر السياسي المستقل المناهض للفساد، في أحيان أخرى، يهاجم بشدة أي انتقاد للإطار وقياداته، متماشيًا تمامًا مع أهدافهم.

نتيجة لذلك، أصبح مصطفى سند مثار جدل بسبب مواقفه المتناقضة والمتطرفة في بعض الأحيان، فهو يظهر كبطل خارج البرلمان، بينما يقتصر دوره في البرلمان على التقاط صور سيلفي، حيث على الرغم من ادعائه بأنه ضد الفساد ويلاحق المتهمين بجرائم القرن دوليًا، مثل نور زهير في روسيا، حيث يظهر كأنه محقق في رواية بوليسية مرتديًا قفازات ومعطفًا طويلًا خلف فندق يزعم أنه كان فيه نور زهير، إلا أنه في المقابل يتجاهل الكثير من الفاسدين الذين يلتقي بهم يوميًا في البرلمان أو في اجتماعات الكتل السياسية. كما لم تخلُ مواقفه من البُعد الطائفي والهجوم على خصومه، حيث واجهت تصريحاته انتقادات شديدة بعد الأحداث الأمنية الأخيرة في الطارمية، أما مواقفه تجاه التحولات الإقليمية، فإن القصة لم تنته بعد.

تركزت رمزية «السند» في محاولة أن يكون إطاريًا بنسق شبابي معاصر، حيث عمد إلى استقطاب الشباب سواءً المتقاربين مع الإطار أو المتذمرين منه، عبر سردية شخصية مؤثرة تركز على نشأته البسيطة وظروفه الصعبة، ملمحًا إلى هؤلاء الشباب إمكانية تحقيق النجاح بالاجتهاد في زياراته إلى مقاهي وتجمعات الشباب.

 حيث يحرص دائمًا على الترويج لنفسه كسياسي قريب من الشباب بمنشوراته على مواقع التواصل أو بعرض نمط حياته البعيد عن الحمايات والتكلف، ليحاول أن يقدم نفسه نموذجًا يلهب مشاعرهم ويصنع أملًا زائفًا، إما ليكونوا سياسيين في المستقبل لأن الأمر سهل بالنسبة إليه، أو ليؤكد لهم أنه فعلًا يمثل تطلعاتهم، لتحقيق غاية أكبر، وهي احتواء هؤلاء الشباب ومواقفهم تجاه قادة الإطار الكبار وسياساتهم.

إن شخصيات مثل «أبو عزرائيل» أو «سند» تمثل تجسيدًا لرمزية صنعتها قوى الإطار التنسيقي، كنتيجة لردة فعل غير موفقة على رمزية سنية غير موفقة في الأصل، قد تروق هذه القراءة للبعض أو قد لا تروق، لكنها تبقى حقيقة مؤسفة، لا تقل أسفًا عن الرمزية التي أوجدها هؤلاء القادة، والتي اسهمت في تفاقم الانقسام الاجتماعي والتشرذم السياسي بما يتماشى مع فلسفة المصالح الضيقة التي لا تخرج عن نطاق البعد الطائفي والحزبي، بدلًا من السعي إلى خلق رموز مؤثرة وفعالة بروح الدولة، تعزز الوحدة الوطنية وتشجع قيم العدالة والشفافية، وتدعم محاربة الفساد في مؤسسات الدولة، وتسهم في إعادة بناء الثقة مع الشارع العراقي نحو مستقبل جديد.

محمد رجا

كاتب صحفي، مهتم في الشأن السياسي والاجتماعي العراقي

Scroll to Top