
23 شباط 2025
متى يصبح الانتخاب «خيانة عظمى»؟
ليست كعادتها، فهي أول انتخابات يشهدها الوطن بعد تحولات كبرى في المنطقة، وما بين رغبة المواطن، وقبضة المتنفذين و «أحزاب السلاح» يترّقب العراق وبالتزامن مع شهر «نريد وطن» الانتخابات النيابية، وذلك ما نصّ عليه برنامج رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، والذي منحه مجلس النواب الثقة وفق بنود بسط الأمن والاستقرار، ومعالجة مشاكل الفقر والبطالة، واستئناف العمل بالمشاريع المهمة، ومكافحة الفساد، ومنها أيضًا بند ينص على إجراء انتخابات نيابية مبكرة في تشرين الأول 2025.
استعدادات وتكتلات.. المضمون أم الخطابات الجوفاء؟
أكدت المفوضية العليا للانتخابات أنها بدأت الاستعدادات الفنية لإجرائها في وقتها المحدد. لكن، في ظل التكتلات الطائفية التي تعيد تشكيل نفسها، وتقدّم الرايات الحزبية، هل يكفي تغّير الخطاب ليتغير الواقع؟ أم أن هذه الشعارات تبقى محكومة بالمعتقدات والأفكار الراسخة في وعي المجتمع منذ الاحتلال الأمريكي، حيث الطائفة ليست مجرد انتماء، بل أيضًا واقع سياسي؟
من جانب آخر، تم تخصيص ميزانية ضخمة للانتخابات المقبلة، حيث بلغت حوالي 400 مليار دينار، مقارنة بـ 160 مليار دينار في انتخابات 2018. هذا الارتفاع الكبير في الميزانية يطرح تساؤلًا مفتوحًا، حول ما إذا كانت هذه الزيادة تعكس استثمارًا في البنية الفاسدة للنظام السياسي؟
في هذا الصدد، قال نائب رئيس مركز الرشيد للتنمية محمود الدباغ في حديث خاص لـ «منصة تغيير» إن “الخطابات التقليدية المستهلكة لم تعد تجدي نفعًا مع الجمهور كما كانت في السابق، إذ باتت أغلبها جوفاء المضمون، حتى وإن استندت إلى استدلالات طائفية أو مناطقية طالمًا استخدمتها بعض الأحزاب في كل سباق انتخابي، خاصة عند افتقارها للإنجازات الحقيقية”.
ويرى «الدباغ» أن “الواقع السياسي اليوم، هو محكوم برغبة الشارع، الذي يشعر بالسخط بعد عشرين عامًا من تجربة ديمقراطية مقنّعة. التغيير لا يتحقق بمجرد تغيير الخطاب، بل يتطلب رؤية وبرنامجًا استراتيجيًا يعالج احتياجات البلاد بشكل جذري، ويقوم على الامتثال للدستور وعلوية القانون، بحيث يكون الفصل بين السلطات وفق مبدأ العراق أولًا، وهو المبدأ الذي غاب عن المشهد السياسي أمام المصالح الشخصية لصنّاع القرار”.

مخاوف متبادلة واحتمالية الانقلاب.. الديمقراطية؟
يتأهب كل طرف من الجماعات الحاكمة لاحتمال أن يقوم الآخر بـ «الانقلاب»، حيث يمثّل انعدام الثقة المتبادلة سمة واضحة بين الأطراف المتنفذة، لذا فهي تبحث عن «تطمينات» عبر افتعال حروب قبيل الانتخابات، ولا تنتهي إلا بتسويات سياسية تُرضي الجميع لاحقًا.
وأوضح مؤسس «منصة تغيير» إبراهيم فاضل أن “جوهر التحول الديمقراطي حين 2003 لم يكن مكترثًا بالديمقراطية بذاتها، بل في خلق حالة سياسية، وفق معادلة نحن وهم، بمعنى، أن ثقافة المعارضة النيابية، لم ولن يراها النظام السياسي، بسبب تلك المعادلة، فهي تشير إلى مستوى من الصراع – التنافس ليس ضمن الدولة، بل احتكار الدولة”. وأكد «فاضل» أن “هذه المعادلة رسخّت أيضًا، نحن وهم، بين الجماهير السياسية – الحزبية، ما أفضى إلى ارتباك اجتماعي فلسفته مرتبطة بشكل عضوي في الصراع السياسي”.
وواجه النظام السياسي الحالي أزمات متفاقمة تركت آثارًا سلبية على المجتمع المدني والسياسي، أبرزها فضائح الفساد، وإقرار «القوانين الطائفية»، و «السلاح المنفلت» و «قرار اللا دولة» وأفرزت صراعًا بين القوى، ما يزيد من احتمالية «معركة انتخابية» ينتظرها العراق في «تشرين».
في السياق، تشير تقارير إعلامية مثل تلك التي نشرها موقع «أمواج ميديا» البريطاني إلى أن المعسكر الذي يقوده هادي العامري وقيس الخزعلي ونوري المالكي، يسعى إلى الاحتفاظ بالهيمنة السياسية للفصائل الموالية لإيران في الحشد الشعبي. يقابل ذلك، معسكر السوداني وحليفه فالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي، الذي يدعو إلى صياغة تحالف أكثر توازنًا بين طهران وواشنطن. وبسحب «أمواج ميديا» فإن السوداني يعمل على كسب فرصة لولاية ثانية، لذا، فإنه “يخاطر بتعريض مستقبله السياسي للخطر من خلال عزل الفصائل المتحالفة مع إيران”. حيث من المتوقع أن يسبق الانتخابات جدل حول التغيير داخل الحشد الشعبي أو في «مسألة السلاح»، ما يعني مزيدًا من الانقسام داخل الإطار التنسيقي من جهة، وبين القوى المتنفذة الأخرى من جهة أخرى.

وتعليقًا على هذه الحالة، ترى مقدمة برنامج المواجهة، الإعلامية رانيا ناصر أن الخطر يكمن في “تحويل الانتخابات إلى مظهر من مظاهر البقاء في السلطة وإفراغها من محتواها الحقيقي، وهذا الأمر جرى تكراره في السابق”.
وقالت «ناصر» لـ «منصة تغيير» إن الانتخابات “أصبحت تمثّل شكليًا عملية انتقال سلمي للسلطة، ولكن في جوهرها، هناك إشكالات كثيرة ترافقها، فالعملية تجرى دائمًا مع استمرار استغلال النفوذ في مؤسسات الدولة، لاسيما الأمنية، ووضع كل مقدرات المؤسسات تحت تصرف المتنفذين وقوائمهم وتحالفاتهم الانتخابية، وهذا بالنتيجة، قد يؤدي إلى تصادم بين القوى المتنفذة الكبيرة، وهناك تجارب كثيرة اثبتت أن الصراع على السلطة قد يصل إلى الصدام المسلح”.

متى يصبح الانتخاب جريمة «خيانة عظمى»؟
أثار مقترح قانون «الحوافز الانتخابية»، الذي قدمه النائب عامر عبد الجبار، موجة من الجدل. ينص المقترح على منح امتيازات مالية ومعنوية للناخبين، مثل أولوية التعيين وقطع الأراضي وإعفاءات ضريبية. ومع أن الهدف المعلن هو تشجيع المشاركة الانتخابية، إلا أن المعارضين يرون في هذا القانون “تهديدًا لمبدأ حرية الاختيار ونافذة للفساد الانتخابي”.
لكن أستاذة الفلسفة السياسية «آفيا باسترناك» تقدم في كتابها «مواطنون مسؤولون ودول غير مسؤولة، هل يتحمل المواطنون أخطاء دولهم؟» فكرة تسمّيها “المواطنة القصدية” حيث المواطنون القصديون هم الذين يؤدون الأدوار المختلفة التي تخصصها لهم الدولة مثل دفع الضرائب، والامتثال للقانون، والانتخاب، وغيرها.
وتشير «باسترناك» في كتابها إلى أن المواطنين حين يتصرفون على هذا النحو، يملكون “مقصدًا تشاركيًا”، إذ يرون أنهم يسهمون، أو يُحتمل أن يسهموا في استمرار الفاعلية المؤسسية للدولة، سعيًا لتنفيذ خططها، وبهذا فهم يشاركون في مجموعة واسعة جدًا من سياسات دولتهم، سواء قدموا مساهمات هامشية، أو اختلفوا معها أو احتجوا ضدها علنًا، ما داموا يدعمون دولتهم فإنهم يشاركون في السياسات التي توّلدها عملية اتخاذ القرار.
وتندرج جريمة «الخيانة العظمى» -نستعيرها هنا مجازًا- ضمن إطار التخلّي عن المسؤوليات السياسية للمواطن، ويعرّف عالم الاجتماع الفرنسي «هوريو Hauriou» الخيانة العظمى بأنها “الجرائم السياسية التي تتناول المؤسسات والمصالح العليا للدولة”. وانطلاقًا من ذلك، ماذا يجب على المواطن العراقي أن يفعل في ظل التحديات الراهنة؟
أكدت رئيسة مؤسسة نبر للتنمية المستدامة لمى الجميلي في حوار خاص مع «منصة تغيير» ضرورة “ألّا ينخدع المواطن بالشعارات المتكررة”. وتعتبر «الجميلي» أن المعيار الانتخابي “يجب أن يكون الإنجاز وليس الانتماء الحزبي أو الطائفي، فالتغيير لا يحدث بمجرد التصويت، بل عندما يكون الاختيار مبنيًا على تقييم واضح لمن عمل بصدق، والانتخابات فرصة، لكن استثمارها بوعي هو ما يصنع الفرق”.

لا يزال الحديث عن التغيير الذي يبحث / لا يبحث عنه الجميع في العراق يتصاعد، مجتمعيًا، وداخل الأروقة السياسية أيضًا، الأمر الذي أصبح بمثابة فكرة بديهية، إلا أن ذلك مرهون بإرادة المواطن العراقي. وبعد كل التضحيات منذ العام 2003 فإن حتمية التغيير تستلزم الوعي المجتمعي للخروج من أثقال أكثر من عقدين، أثقال إدارية، وطائفية، وخدمية، اقتصر دور الحكومات المتعاقبة على محاولة تهميشها، بحلول واهية سرعان ما انفجرت في مناسبات عدة، أبرزها احتجاجات تشرين الأول 2019.
وتبقى انتخابات 2025 -في حال إجراءها- فرصة كبرى، لإعادة التحول الديمقراطي كما يجب أن يكون، دون انتظار «المعجزات»، أو البقاء في دوامة التراجع، والتأثيرات الخارجية في القرار العراقي.
لبناء وطن ومواطن
تسعى منصة تغيير الى تعزيز دور المواطن العراقي في المشاركة البناءة في رفع المبادئ الوطنية والمصالح العليا والقيم والإرث والهوية الوطنية الجامعة بالوسائل المدنية.