خاص منصة تغيير | قراءة معمّقة في سياسة القوى:

هل بات الاستثمار الطائفي ينفع؟

لم تقف معظم القوى السياسية عند حد «الاستقرار الطائفي»، ذلك الحد الذي يسمح لها في كسب ثقة الطائفة، واستغلال المتبنيات المذهبية في الوصول إلى السلطة وهو ما حققته بعد 2003، بل تجاوز نموذجها إلى شيطنة الآخر، وتفعيل خاصية «البعبع» الذي يقتلع هذه الطائفة أو تلك من أرض الوطن، واستعانت بأدوات غير تقليدية، تستثمر فيها من أجل شرعية البقاء والنفوذ وحتى شرعية السرقات، بمعنى «الحرامي اللي تعرفه خير من اللي ماتعرفه»، إضافة إلى أدوات إعلامية، تلك الأدوات التي سرعان ما عادت بعد أحداث سوريا إلى الخطاب الطائفي الصريح، تحسبًا لأي مبادرة مجتمعية ترفض النموذج السياسي القائم. فهل تُعد الطائفية اليوم مصدر قوة لساسة العراق؟

للإجابة على التساؤل، يقول رئيس مركز رواق بغداد للدراسات لـ «منصة تغيير» إنه ”لا يمكن الإجابة بنعم أو لا. فالخطاب الطائفي أسلوب حياة ومنهج لدى بعض السياسيين، فهم يستخدمونه كلما دعت الحاجة إليه. وأشار «العنبوري» إلى أن “السياسيين الذين اتخذوا للطائفية منهجًا للخطاب منكفئين على أنفسهم بشكل عام، ولكن علينا التذكير أن المنطقة تغلي على صفيح ساخن، وهناك تداعيات كبيرة لأحداث سوريا قد تعيد الخطاب الطائفي من جديد.

الخطاب الطائفي أسلوب حياة ومنهج لدى بعض السياسيين، فهم يستخدمونه كلما دعت الحاجة إليه.كما أن السياسيين الذين اتخذوا للطائفية منهجًا للخطاب منكفئين على أنفسهم بشكل عام، ولكن علينا التذكير أن المنطقة تغلي على صفيح ساخن، وهناك تداعيات كبيرة لأحداث سوريا قد تعيد الخطاب الطائفي من جديد.
عباس العنبوري
رئيس مركز رواق بغداد للدراسات

الاستثمار من أجل القوة

نشر معهد العالم للدراسات في 2017 بحثًا بعنوان «الطائفية في العراق: صراع بين الهوية وسياسات القضية»، أكد فيه الباحث «ريناد منصور» أنه بعد 2003، «رسّخت الأحزاب الحاكمة في العراق الطائفية، عبر استنادها إلى هويات فرعية بدلاً من تمثيل شعبي حقيقي، والتي جاء معظم قادتها من منفى بعيد عن واقع البلاد»، ويشير البحث إلى أن «هذه الأحزاب اعتمدت على الخطاب الطائفي وسياسات الهوية لاكتساب شرعيتها».

وعلى الرغم من تلك الحقيقة، إلا أن ذلك لم يصطدم بـ «وطنية» العراقيين، الذين خرجوا من نظام ديكتاتوري، آملين الحرية والتنمية، وبعد مرور عقدين من الزمن، وجدوا أنفسهم أمام قوى متنافسة طائفيًا، تعمل على حشد المواطنين نحو مشاريع ضيقة، ونزعة ترفض الآخر، وتخشى منه، إضافة إلى أنها تغامر بمصير الوطن وسلامة أراضيه. وهذا ما أكده مؤسس «منصة تغيير» إبراهيم فاضل، وأشار إلى أن “الوعي الوطني لم يتصدَّ إلى مشاريع التفرقة، هذا إن وجد حينها، ما أفضى إلى البحث عن طموحات الطائفة بديلًا عن رؤية وطنية مشتركة. وقال «فاضل» إن “استحضار المشاريع الطائفية، وتفعليها في الفضاء السياسي لم يكن وليد اللحظة، فهذا ما عملت عليه أحزاب المعارضة قبل 2003 وتحديدًا في مؤتمر لندن وتسويق المظلومية الطائفية للعالم، بدلًا عن مشروع جامع واستراتيجية حكم شاملة”.

الوعي الوطني لم يتصدَّ إلى مشاريع التفرقة، هذا إن وجد حينها، ما أفضى إلى البحث عن طموحات الطائفة بديلًا عن رؤية وطنية مشتركة. واستحضار المشاريع الطائفية، وتفعليها في الفضاء السياسي لم يكن وليد اللحظة، فهذا ما عملت عليه أحزاب المعارضة قبل 2003 وتحديدًا في مؤتمر لندن وتسويق المظلومية الطائفية للعالم، بدلًا عن مشروع جامع واستراتيجية حكم شاملة.
إبراهيم فاضل
مؤسس منصة تغيير

الهدف المشترك

كشف تقرير لمعهد واشنطن سنة 2022 أن «إضعاف الدولة هو الهدف المشترك الذي يجمع الأحزاب الحاكمة في العراق، وهو بذلك يسمح لهم بالفساد والسرقة»، وأضاف التقرير أن المركزية في العراق ضعيفة، إذ تستنزفها جميع الأحزاب الموجودة في السلطة من أجل مصالحها الطائفية. الأمر الذي يُعد وسيلة فعّالة للاستثمار في سبيل البقاء. لكن ما هي الأدوات والبدائل للخروج من الأزمة؟

في هذا السياق، تقول الباحثة السياسية نوال الموسوي في حديث خاص لـ «منصة تغيير» إن “البدائل لدى السياسيين الكلاسيكيين قد تكون محدودة كونهم اتخذوا منهجًا وخطابًا رسّخ الطائفية والإثنية وهم مستمرون بهذا النهج حتى لا يخسروا جمهورهم الذي اعتاد عليه”. ما يعني أن «الموسوي» تطرح أفكار في غاية الأهمية، بمعنى أن بعض المواطنين ربما يوافقون بشكل أو بآخر على الأطروحة الطائفية، معتادين على فلسفة المظلومية وأن الآخر يعمل على إقصاء الطائفة من المشهد السياسي، وبالتالي، الاجتماعي. وتؤكد «الموسوي» أن “الخطاب هو أول خطوة يمكن اعتمادها لصقل هوية المواطن العراقي، إضافة إلى المصداقية في الوعود، وتحفيز المواطن إيجابًا لأن يكون عنصرًا فعّالًا في مجاله.

البدائل لدى السياسيين الكلاسيكيين قد تكون محدودة كونهم اتخذوا منهجًا وخطابًا رسّخ الطائفية والإثنية وهم مستمرون بهذا النهج حتى لا يخسروا جمهورهم الذي اعتاد عليه، والخطاب هو أول خطوة يمكن اعتمادها لصقل هوية المواطن العراقي، إضافة إلى المصداقية في الوعود، وتحفيز المواطن إيجابًا لأن يكون عنصرًا فعّالًا في مجاله.
نوال الموسوي
باحثة سياسية

ليست مجرد كلمة

أصبحت الطائفية عاملًا رئيسيًا في إضعاف مؤسسات الدولة وتحويل النظام السياسي إلى ساحة لتقاسم النفوذ بين القوى، هذا التوجه أدى إلى إضعاف الشعور بالمواطنة، بل وجعل منها مفهومًا سطحيًا وفكرة عاجزة، مما زاد الاعتماد على الولاءات الفرعية، وتفاقمت أزمات الفساد وتردّي الخدمات بسبب غياب المحاسبة وضعف المركزية، وهي نتائج مباشرة لسياسات الطائفية المستمرة. في مقابل ذلك، يبدو أن المزاج الشعبي العراقي بدأ يشهد تغيرات ملحوظة تجاه الطائفية، فالحركات الاحتجاجية التي انطلقت عام 2019، أظهرت أن العراقي يرفض بشكل متزايد الخطابات الطائفية، داعيًا إلى بناء دولة مدنية قائمة على العدالة والمساواة، هذا التحوّل يشير إلى تآكل شرعية القوى الطائفية وظهور وعي جديد يدرك مخاطر الانقسامات على مستقبل البلاد.

  • لكنها في ذات الوقت لم تصبح قيمة مجتمعية بعد، ولم تبلور مشروعًا يحاصر مشاريع الانقسام، غير أنها -المواطنة- كانت شعارًا تروجه معظم الأحزاب الناشئة هروبًا من النمط التقليدي، كما أن كثيرًا منها، يقف خلف كواليسه قيادات طائفية بامتياز.
الميليشيات المسلحة والإعلام الطائفي لعبا دورًا خطيرًا في تعميق الانقسامات، في حين أن النزاعات الإقليمية جعلت العراق ساحة لصراعات بالوكالة، وعززت هذه السياسات الانقسام الاجتماعي، وأضعفت الهوية الوطنية، وزادت من اعتماد القوى على الدعم الخارجي لتحقيق مصالحها.
بدر السليطي
إعلامي ومقدم برامج

المحللون السياسيون

كشفت مصادر خاصة لـ «منصة تغيير» أن “معظم القوى المتنفذة «تُرشي» محللين سياسيين أو تكافئ بعضهم على دورهم الإعلامي”، وقال المصدر لـ «منصة تغيير» إن “هناك أحزابًا سياسية فاعلة تعمل بنظام «الأوردر» أي التوجيه المباشر لإعلاميين ومحللين سياسيين وفق ما تتطلبه مصلحة الحزب أو الجهة”، مضيفًا أن “أغلبها تعمل على إثارة الخطاب الطائفي بعد الأحداث السورية لضمان عدم تحرك الشارع العراقي ضدها وإعادته إلى مربع الطائفة أولًا”.

في ذات السياق، أثارت تدوينة نُشرت عبر حساب «عصام حسين»، الذي يعرّف نفسه على أنه «مواطن ومهتم بالشأن السياسي» جدلًا واسعًا لما تحمله من نعرات طائفية في ظل ما تشهده المنطقة من توتر، حيث قال فيها: «عدهم ثلاث محافظات مرة انطوها للزرقاوي.. النوب راحوا سلموها لأبو بكر البغدادي.. وهسة يريدون يسلموها لأردوغان والجولاني». ووصفت الإعلامية «سجد الجبوري» التدوينة في تعليق لها على منصة X بأنها «اتهام باطل وتحريض علني يشوه صورة أبناء المحافظات المحررة». وفي ظل هذا الجدل، يبرز تساؤل حول مفهوم المواطنة الذي يدّعيه «عصام حسين».

  •  فالمواطنة تشير إلى المسؤولية المشتركة بين أفراد المجتمع، سواء في الحقوق أو الواجبات، بما يعزز الانتماء للوطن واحترام قوانينه وهويته. وبالتالي، ما مدى التزام صاحب التدوينة في مبادئ المواطنة التي يفترض أنها تتنافى مع خطاب الكراهية؟

من ذلك، يقف العراق اليوم أمام مفترق طرق؛ إما أن يتجاوز الطائفية ويعزز بناء الدولة، أو البقاء في دوامة استثمار الهويات الفرعية التي ثبت فشلها في تحقيق تطلعات العراقيين، إلا أن ذلك يجب أن يكون قيمة حقيقية، وتسامحًا مع الذات، والآخر، للمضي نحو عيش كريم في وطن الجميع.

لبناء وطن ومواطن

تسعى منصة تغيير الى تعزيز دور المواطن العراقي في المشاركة البناءة في رفع المبادئ الوطنية والمصالح العليا والقيم والإرث والهوية الوطنية الجامعة بالوسائل المدنية.

Scroll to Top