12 كانون الثاني 2025
جدل المساس بشرعية النظام: عن الخوف من «أمن سياسي» جديد!
في خطوة أثارت موجة واسعة من الجدل، وجّه مكتب رئيس مجلس القضاء الأعلى إلى تحريك دعاوى قضائية ضد كل من يقوم بـ «التحريض أو الترويج لإسقاط النظام السياسي أو المساس بشرعيته عبر وسائل الإعلام أو المنصات الإلكترونية». ورغم أن الخطوة قُدّمت بوصفها إجراءً لحماية الدولة، إلا أنها فتحت بابًا من الأسئلة الدستورية والقانونية حول حدود النقد السياسي، وحدود السلطة في توصيف الجرائم، وخطورة استخدام عبارات فضفاضة قد تتحول إلى أداة لتقييد حرية الرأي. وبين قراءة رسمية ترى في القرار حماية للنظام، ومخاوف شعبية وحقوقية من عودة «الأمن السياسي» بصيغ جديدة، وقف المشهد العراقي أمام اختبار حقيقي لمستقبل الحريات والشرعية الديمقراطية.
وبعد أيام من رواج الكتاب على نطاق واسع، وجّه الإشراف القضائي في المجلس «عقوبة التوبيخ للقائم بمهام مدير مكتب رئيس القضاء على خلفية تنظيمه لكتاب حول الإجراءات بحق من يدعو لإسقاط النظام السياسي واستخدامه عبارات تخالف توجهات رئيس المجلس».
الجدل.. بين ثقة وتردد وانتقاد
انتقدت جهات دولية الكتاب الأول، حيث اعتبر الكونغرس الأمريكي أن هذا الإجراء يهدف إلى «مقاضاة كل من ينتقد عملاء إيران» ونفوذهم في الدولة العراقية. وقال النائب «جو ويلسون» في تدوينة إنه من «المحزن عودة العراق إلى عقلية الدولة البوليسية التي سادت في عهد حزب البعث».
وقالت أوساط محلية إن العراق «مقبل على مرحلة قد يصل فيها عدد السجناء إلى 10 ملايين لأن أي مواطن يقول إن النظام فاسد ويجب تغييره، أو ينتقد السلطة، أو يدعو لإصلاح سياسي جذري سيُعتبر وفق هذا الكتاب داعيًا لإسقاط النظام، وبالتالي يصبح سجين رأي». فيما يرى أحد الصحفيين «أن الأنظمة، كما في عهد صدام حسين، كان الناس يخافون أن ينادوا بإسقاطه. الجدران لها آذان تسمع والعيون مزروعة بين العوائل، لكن النظام كان ساقطًا بالفعل. تسقط الأنظمة بمجرد فشلها وإصرارها على الفشل وتغييبه عبر القمع أو تصدير الأزمات. لا تحصل الشرعية بالقوة ولا تدوم، مهما كانت، وإن وجدت، فهي ليست شرعية، وإنما صورة من الرعب البوليسي، الذي سينكسر عند أي فرصة تأتي». وتساءل آخر قائلًا «هل اكتملت أركان الديكتاتورية الآن، وهل يوجد قرار آخر بعثي لم يطبق بعد؟». وفي السياق، أكد نائب الأمين العام لتيار الخط الوطني، حامد السيد، أن «الجريمة الفضفاضة، بلا تعريف قانوني دقيق، يجعل النظام مختزل بعملية سياسية فاسدة فوق المساءلة، وفوق النقد، وفوق المواطنين أنفسهم. وهنا يبدأ الخطر».
وحول إصدار القرارات والتراجع عنها، قال الباحث في الشأن السياسي، مجاهد الطائي، إنه «بعد التراجع عن قرار تجميد أموال الإرهابيين المنشور في جريدة الوقائع، رئيس هيئة الاشراف القضائي يوبخ مسؤولًا على خلفية إصداره كتابًا يتناول التضييق على الحريات وتهم الترويج لإسقاط النظام السياسي في العراق، بدون موافقة رئيس مجلس القضاء، فهل سيُذاع البيان رقم واحد يومًا ما بالخطأ؟». بدوره، علق القيادي في تحالف الإعمار والتنمية، إبراهيم الصميدعي، على توبيخ مدير مكتب القاضي زيدان، ومعالجة الخطأ، بالقول إن «حرية الشعب في إدانة المظاهر الخاطئة التي رافقت تأسيس النظام أولى من حصانة النظام الذي يصر عليها، وهي خطوة تستحق التقدير من السيد زيدان». واتفق معه الباحث في الشأن القانوني المقرب من تحالف الإعمار والتنمية، احمد الزيادي، الذي أكد أن «المؤسسة القضائية لا تسمح بأن تُدار بمزاج الأشخاص أو باجتهاداتهم، بل بنصوص واضحة وحرص صارم على الدقة».
وعد ناشطون في مجال الحريات، بضمنهم رئيسة مركز النخيل للحقوق والحريات الصحفية، زينب ربيع، تصحيح الخطأ، بأنه «يجسد حرصًا صادقًا على صون هيبة القانون ومنع محاولات تطويع نصوصه أو استغلال حق التقاضي لملاحقة أصحاب الرأي». فيما انتقد آخرون ما وصفوه بـ «التخبط»، إذ قال الكاتب والباحث مصطفى سالم، إن «رئيس مجلس القضاء يلقي باللوم على مدير مكتبه، لكنه في الواقع لن يعود عن تحويل السلطة القضائية إلى أداة قمع تؤدي نفس مهام الميليشيات، أو يكمل أحدهما الآخر. أي نوع من الدول هذه التي تتراجع عن قرارات تنشرها في الجريدة الرسمية، ورئيس مجلس القضاء لا يعرف مواد الدستور». وذهب بعض المتفاعلين إلى أن صدور الكاتب الثاني المتعلق بتصحيح الخطأ، جاء استجابة لانتقادات دولية، أبرزها ما جاء في تدوينة عضو الكونغرس الأمريكي. وأشار الباحث في العلوم السياسية، إياد العنبر، إلى أبعد من ذلك، حول ما وصفه ببعض الإرادات السياسية التي تريد «أن تسلط سيوفها على رقاب من ينتقدون شخوص المنظومة الحاكمة، ومحاربة كل صوت ينتقدهم بدعوى هذا نقد للنظام السياسي»، مؤكدًا أنه «لولا تدخل مجلس القضاء الأعلى في سحب البساط من تحت اقدام الدكتاتوريين الجدد، لأصبحت السجون العراقية تضج بمنتقدي المنظومة الحاكمة بدلًا من المتجاوزين على هيبة الدولة».
فيما قال رئيس لجنة الصحة النيابية، ماجد شنكالي، إن «مشروعية النظام السياسي وقوته تكمن في اداءه وقدرته على بناء دولة المؤسسات والمواطنة وسيادة القانون، وعلى قدرته بالنهوض بالواقع المالي والاقتصادي والخدمي من خلال تقليل نسبة البطالة وزيادة فرص العمل وزيادة الناتج القومي وتقليل الفجوة بين الاغنياء والطبقة الوسطى والفقراء، وليس بالدعوة على رفع الادعاء العام قضايا على من ينتقد النظام السياسي وشرعيته بسبب ضعفه وتقصيره في القيام بواجباته تجاه الدولة بكل مقوماتها».
الذاكرة السياسية ومسألة «النظام»
تمتلك الذاكرة السياسية في العراق حضورًا ضاغطًا يعيد تأطير أي إجراء رسمي يمكن أن يمس حرية التعبير أو يحد من المجال العام. فالمفاهيم المرتبطة بـ «إسقاط النظام» أو «المساس بشرعية النظام» ليست مصطلحات قانونية مجردة، بل محمولة على إرث ثقيل، ارتبط بفترات حكم الحزب الواحد وآليات «الأمن السياسي» التي كانت تقوم على مراقبة الخطاب وملاحقة المعارضين. لذلك، تُقرأ مثل هذه الإجراءات اليوم من خلال تركة الماضي، وتتقدم المخاوف من العودة إلى أنماط سلطوية أكثر مما تتقدّم التطمينات الرسمية عن أهداف الإجراء وحدود تطبيقه.
وتكشف هذه الذاكرة، عن حساسية عميقة في المجتمع تجاه أي محاولة لتوسيع تعريفات التحريض أو إدخال عبارات فضفاضة في المجال القانوني. فالتحريض على إسقاط النظام يُفهم عادة في سياق العنف أو التهديد المباشر للأمن العام، أما إدراج النقد السياسي، أو الدعوة لإصلاحات بنيوية، ضمن هذا الإطار، فيبدو استدعاءً لأدوات الضبط القديمة التي خبرتها البلاد قبل 2003. الأمر الذي يعيد طرح سؤال جوهري، هل يُنظر إلى «النظام» بوصفه بنية قابلة للنقد والمساءلة، أم بوصفه كيانًا مقدسًا يتعالى على النقد؟
في المقابل، يكشف التراجع السريع عن الإجراء وما تلاه من قرارات تصحيحية عن وجود آليات اجتماعية ورأي عام قادر على التأثير في القرارات العليا. هذا التفاعل يشير إلى أن المجتمع ما زال يحتفظ بقدرة على الضغط وأن الحساسية تجاه العودة إلى «الدولة الأمنية» لم تتآكل، بل أصبحت جزءًا من الوعي العام الذي يراقب السلطة، لكنه في الذات لم يعد قادرًا على دعوة الفاعليين السياسيين لتصحيح مسارهم، نحو بناء دولة المواطنة. ذلك أن الثقة المواطنية، بدأت تفقد استمراريتها في ظل نهج الأحزاب الحاكمة والمتحاصصة.
غير أن هذا المشهد لم يمر دون انعكاسات على الثقة بالمؤسسات. فالانتقال من إصدار القرار إلى سحبه ثم محاسبة المسؤول عنه أنتج حالة من التذبذب المؤسسي، عكست غياب اتساق داخلي في إدارة الملفات الحساسة. وتفتح هذه الارتباكات الباب أمام تساؤلات حول مدى وضوح الرؤية المؤسسية وحدود الدور الدستوري للجهات الرسمية في ضبط المجال العام. كما أن تفسير هذه التراجعات بوصفها «استجابة لضغوط خارجية»، لا تصحيحًا نابعًا من احترام النصوص القانونية، يغذي شعورًا عامًا بأن القرارات المتعلقة بالحريات تخضع لاعتبارات سياسية أكثر مما تخضع لمنطق الدولة والقانون. ما يؤدي إلى ضعف في الثقة التي يحاول الفاعلون السياسيون اكتسابها بمختلف الطرق، لا سيما عبر سياسات الهوية، وسردية الدفاع عن «حقوق المكونات».
الشرعية والثقة
أظهر الجدل حول الإجراءات الأخيرة أن الإشكال لا يتعلق بنص إداري أو بتفسير قانوني فحسب، بل ببنية الشرعية السياسية في العراق وما يعتريها من هشاشة. فالشرعية القائمة على ترتيبات المحاصصة أكثر مما تقوم على عقد اجتماعي واضح تجعل الدولة في موقع دفاعي دائم، إذ تُصبح أي مساءلة أو نقد بمثابة تهديد لا بوصفه ممارسة ديمقراطية طبيعية. وفي ظل مجال عام يعاني من الاستقطاب وغياب الثقة المتبادلة، تتخذ ردود الفعل الرسمية طابعًا متصلبًا يسعى إلى ضبط المجال العام بدل تطويره، ما يعكس عمق التوتر البنيوي في العلاقة بين السلطة والمجتمع.
كما أن ضعف أداء المؤسسات، وتراجع قدرتها على تقديم خدمات فعّالة، يزيد من اتساع الفجوة بين المواطن والدولة. وبدل معالجة هذه الفجوة عبر تحسين الإدارة ومكافحة الفساد وتكريس الشفافية، تُقرأ الإجراءات التي تمس حرية التعبير بوصفها محاولة لإعادة تعريف حدود المسموح والممنوع، وتضييق نطاق النقد الذي يُفترض أن يكون جزءًا من آليات تصحيح المسار.
وهكذا يصبح النقاش حول الشرعية متداخلًا مع النقاش حول الثقة، وأي تقييد للمجال العام يُنظر إليه باعتباره علامة على نزعة سلطوية، وأي تراجع عن هذه النزعة يعيد التذكير بغياب رؤية مؤسسية مستقرة.
ويضع هذا الواقع الدولة أمام ضرورة حسم خيارها بين مسارين، مسار يقوم على بناء الثقة مع المواطنين، أي المواطنة لا «المكونات»، ومسار آخر يعيد إنتاج الخطوط الحمراء ويستند إلى ضبط الخطاب بدلًا من تطوير الأداء. فالدولة التي تسعى إلى حماية نفسها عبر تجريم الرأي لا تعزز شرعيتها، بل تكشف عن هشاشتها. بينما الشرعية الحقيقية تنبع من قدرة النظام السياسي على الإصلاح، والاستجابة للمجتمع، وتأكيد أن السلطة تخضع للمحاسبة مثلها مثل أي فاعل آخر.
وفي هذا المعنى، تصبح حرية النقد ليس فقط حقًا دستوريًا، بل عنصرًا تأسيسيًا في استقرار النظام ذاته. بمعنى أن الدولة التي تقوم على قاعدة اجتماعية صلبة لا تحتاج إلى آليات رقابية لحماية صورتها. أما الخوف من انزلاق نحو «أمن سياسي» جديد فسيظل قائمًا ما لم تُضبط مفاهيم التجريم بدقة ويُصنّف النقد السياسي بصفته جزءًا من المجال الديمقراطي لا انتهاكًا للشرعية.
لبناء وطن ومواطن
تسعى منصة تغيير الى تعزيز دور المواطن العراقي في المشاركة البناءة في رفع المبادئ الوطنية والمصالح العليا والقيم والإرث والهوية الوطنية الجامعة بالوسائل المدنية.
