15 أب 2025

الكثير من «البلطجة» والقليل من السياسة

لم تُبتذل السياسة في العراق فحسب، بل ارتبط بهذا الابتذال خراب المجتمع، وانعكاس القيم والأخلاقيات، ويُفاخر بما هو ضدهما، فضلًا عن المجاهرة باللا قانون. إذ لم يُجدِ التحذير من «السلوك الميليشياوي» نفعًا. والافتراض بأن هذا التحذير يمثّل ردعًا وتنبيهًا يستوجب التوقف عنده؛ يصطدم بمن يقول علانية: «نحن ميليشياويين».

هذه «البلطجة» السياسية، ظاهرة ضاربة في التاريخ، ولم تبرز إلا في مراحل الانحطاط التي شهدتها المجتمعات البشرية، وتمت مناقشتها في مراجعة آليات تنظيم شؤون البشر، فضلًا عن السجالات بين رواد الفكر السياسي.

حذر أفلاطون في «الجمهورية» من تحول السياسة إلى ساحة ابتذال. والأخير عند أفلاطون، هو استغلال أدعياء القيادة، جهل العامة. وهو بالذات يمهّد لظهور قادة شعبويون يبدون حامين للبسطاء والفقراء، إلا أنهم في الحقيقة يفسدونهم ويبعدونهم عن الفضيلة.

حديثًا، قدمت «حنا آرنت» مفهوم «تفاهة الشر» عام 1961، حين شغلها سؤال «هل يمكن للإنسان أن يرتكب أعمالًا شريرة دون أن يكون شريرًا؟». وكان ذلك بعد محاكمة المسؤول النازي «أدولف آيخمان»، حيث لاحظت «آرنت» أنه لم يكن منحرفًا أو ساديًا. وما فعله من جرائم حرب، لم تكن سوى اجتهادًا لتعزيز مساره المهني في البيروقراطية النازية.

وخلصت «آرنت» إلى أن الشر يمكن أن يكون تافهًا وبيروقراطيًا عندما ينفصل عن العمق الفكري والأخلاقي، ومن الممكن أن ترتكب النخب فظائع -بمختلف أشكالها- بدم بارد تحت ستار البيروقراطية والقانون.

هذه الشواهد، وغيرها، كما ابن خلدون ودورة حياة الدولة، والكواكبي عندما أكد أن الاستبداد لا يعيش إلا حين تتواطأ معه البنية الأخلاقية للنخبة؛ تقدمنا نحو فهم «البلطجيون» في أروقة الدولة العراقية. حيث غدت الممارسات مبتذلة، تبرر «الشر»، واللا دولة. ورغم ضربها المصلحة الوطنية العليا عرض الحائط، إلا أنها في اللحظة التي يتطابق فيها ما تعتقده مع القانون، تستخدم الأخير، بانتقائية ساذجة. وهو ما حدث في تبرير رفع الأعلام الأجنبية داخل العراق. أو دفع قضية الدكتورة بان من جانب أحد النواب، باتجاه معين.

سلوكيات الابتذال و«البلطجة»، مغرية للجماهير المندفعة، غير المتصالحة مع ذاتها، ومع أي «آخر». ثمّة «آخر» عدو، يُستدعى وفقًا للسياق. البعث تارة، والإرهاب تارة أخرى. ولا انتهاء بالعدو الخارجي الذي يتربّص بـ «المذهب»، أو لإفشال «الديمقراطية» في العراق.

من ذلك؛ انتهى المطاف بالعراقيين، في معارك، ليست ضد «عدو»، بل على مسألة أحترام العلم أو عدمه. وغيرها من المرموزات الوطنية، التي هي الأخرى، جرى تطويعها لصالح الإيديولوجيات.

«البلطجيون» في السياق العراقي، ليسوا أشرارًا بالضرورة، إلا أن تدافع المشاريع الطائفية، والارتهان إلى سياسة المحاور الإقليمية، تفرض متبنيات، يجب الاجتهاد في قراءة أحداث البلد بما يتوافق معها.

وهو ما يعني حتمًا، شروخ اجتماعية، ولا إجماع على مشروع سياسي، وتبقى اللا دولة تتسيد في عراق الحضارة.

إبراهيم فاضل

مؤسس منصة تغيير وباحث مهتم في قضايا الدولة والمواطنة

Scroll to Top