14 تموز 2025

كيف أصبحت الذاكرة وسيلة لانقسام العراقيين؟

نبراس علي

ما اجتمع عليه «الصديقان» عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف في 14 تموز 1958، حين أسقطا النظام الملكي بانقلاب مشترك، سرعان ما تحول إلى خلاف دموي. فقد اندلع صراع على السلطة بينهما انتهى بانقلاب 8 شباط 1963 الذي أطاح بقاسم وتولى بعده عارف رئاسة البلاد. لكن انتصار عارف لم يدم طويلًا، إذ لقي حتفه في حادث غامض (سقوط طائرة هليكوبتر) عام 1966. وصولًا إلى صدام حسين الذي استولى على الحكم بالقوة هو الآخر، مؤسسًا نظامًا دكتاتوريًا حكم البلاد بالحديد والنار حتى أُسقط بالقوة عام 2003.

خلال تلك المراحل، شهد العراق موجات عنف سياسي مرير امتدت من قمّة السلطة إلى الشارع وطالت حتى المواطنين العاديين. إذ تحوّل الخلاف السياسي إلى وسيلة للانتقام والتصفية. ففي أعقاب انقلاب 14 تموز 1958، مثّل الإعدام والسحل العلني للخصوم مشهدًا مروّعًا؛ سُحلت جثث أفراد العائلة المالكة ورجال النظام الملكي في الشوارع وعُلِّقت على أعمدة الإنارة. هذه المشاهد الدموية كرّست عُرفًا خطيرًا في الحياة السياسية، حيث باتت تصفية الخصوم جسديًا أداة مشروعة للتغيير السياسي.

الدموية رمز للتحرير

بعد ما حدث في 14 تموز 1958، تحولت الدموية من فعل مُدان إلى ما يشبه رمزًا للتحرير في المخيال السياسي العراقي. استنسخت القوى السياسية الصاعدة بعد الثورة أساليب الاستبداد التي كانت تنتقدها في العهد الملكي، بل وطورتها إلى مستوى أشد قمعًا. فمثّل عنف نظام البعث عام 1963 –من تعذيب وقتل وتجاهل تام لحقوق الإنسان– مجرد «بروفة» لما هو أبشع لاحقًا تحت حكم البعث الثاني بزعامة صدام. وهكذا بدأت معالم ما يمكن تسميته بـ «جمهورية السلاح المُشرّع» الأولى في العراق، حيث صار السلاح والبطش هو اللغة المشتركة بين الأنظمة المتعاقبة ومعارضيها على حد سواء، بدلًا من القانون والمؤسسات.

الزعيم الأوحد

عانى العراقيون لاحقًا من حالة اعتماد مفرط على شخصية الزعيم الواحد على حساب مؤسسات الدولة. هذا الاعتماد سهّل لبعض القادة الاستئثار بالسلطة وتجاهل بناء أجهزة رسمية قوية ومستقلة، فكلما تعاظم دور الفرد القائد، تراجعت سلطة المؤسسات التشريعية والقضائية والإدارية، ما أضعف دولة القانون، تمهيدًا لانتشار الفساد والمحسوبية. ولقد خلّف ذلك عقودًا من عدم الاستقرار والعنف وحكم الفرد، مؤسساتٍ ضعيفة وأجهزة رقابة شبه معدومة، مع شبكات مصالح مترسخة تقاوم الإصلاح.

واليوم، تتفاقم هذه الظاهرة بفعل الاستقطاب المتعصب في الآراء والانتماءات. فقد أدى التشظي الأيديولوجي والطائفي إلى تشكيل مليشيات مسلحة تدين بالولاء لزعماء محددين أو أفكار متطرفة، وتدافع عنها بالقوة. ومع انتهاء عهد «الرجل القوي» المركزي بعد 2003، برزت قوى شبه عسكرية تمثل الطوائف والإثنيات المختلفة ووجدت طريقها إلى بنية الموسسات الأمنية.

لا يكون العلم كله في شخص واحد

يشكّل انقسام الآراء بين مؤيّد ومعارض حول الأحداث السياسية والتاريخية ظاهرة شائعة في عراق اليوم، وذلك نتيجة ضعف ثقافة الحوار وقبول الآخر. غالبًا ما ترتبط هذه الانقسامات بهويات أيديولوجية أو طائفية ضيقة، فتؤدي إلى تمزيق الوعي الوطني الجامع. ويمكن تصنيف المواقف من الآراء المختلفة إلى ثلاث درجات:

الوعي المتزن: يملك الفرد قناعة معينة لكنه يدرك نسبيتها، فيترك مجالًا لتصحيح نفسه أو تقبّل رأي غيره.

القناعة الصلبة: يؤمن الشخص بصواب رأيه وخطأ الآخر، لكنه لا يحوّل هذه القناعة إلى أداة عداء أو قمع، بل يقف عند حدود الاختلاف السلمي.

التعصب المغلق: وهذا أخطرها، حيث يرى المرء في الاختلاف خيانة ويبرّر العنف باسم الدفاع عن الحقيقة المطلقة. وللأسف، هذه الدرجة الثالثة هي الشائعة في مجتمعنا، إذ يسارع الكثيرون إلى تخوين المخالف واستباحة مواجهته.

عندما ندرك أنه لا يكون العلم والحقيقة كلها في شخص واحد –خاصة في مسائل تمتد جذورها عبر أجيال– سنفهم أن الحكمة موزعة بين الناس، وأن الاعتراف بتعدد وجهات النظر والاحتكام للحوار هو السبيل لبناء توافق يصب في مصلحة المجتمع كله. فالاتفاق على ذاكرة وطنية مشتركة وقراءة منصفة للتاريخ، مهما كانت مؤلمة، هو ما سيحول الذاكرة من مصدر للانقسام إلى أداة للوحدة وبناء المستقبل المشترك.

عند قراءة تاريخ العراق في القرن العشرين، نجد أن «لعن الأسلاف» نهجًا اتبعته الحكومات المتعاقبة عبر محو الجذور، وتغيير الأسماء، واستبدال الرموز برموز جديدة، وبناء سرديات بطولية جديدة تحل محل الموجودة، والاهتمام بأحداث على حساب الأخرى. ولو أنهم استطاعوا أن يغيّروا خلق الله لفعلوا، لكنها قدرته عز وجل، وهو القادر على كل شيء.

«لعن الأسلاف» بوصفها ظاهرة

لم يعرف العراقيون مسمّى «ثورة العشرين» إلّا بعد الإطاحة بالمملكة العراقية سنة 1958. وأُطلق عليها حتى ذلك الحين اسم «الثورة العراقية الكبرى»، ولأسباب تتعلق بـ«الثورة الجديدة» أي انقلاب 14 تموز، توّجب التمييز بينهما. ولم تكن الهويات المذهبية السياسية (سنة وشيعة) منذ تشكيل الدولة العراقية متمايزة وواضحة كما اليوم، لكن الإشكالية هي أننا نكتب، أو نفهم التاريخ بعقد الحاضر وتداعياته. لذا يمكننا أن نعرف «لعن الأسلاف» في العراق بأنها ظاهرة تعمد إلى فصل الذاكرة المجتمعية عن أحداث ومنظومة قيم نشأت عليها سلفًا، واستبدالها بسرديات باعثة للانقسام بين المواطنين. وللاستدلال على مظاهر تلك الحالة:

المؤسس «فيصل الأول» قرن من التخوين

تحتفي الأمم برموزها، والجماعات بقادتها، والدول الوطنية بمؤسسيها، باعتبارهم أعلام تجمع ولا تشتت، تقف على مساحة واحدة من الجميع ولا تُقصي بدواعٍ أيدولوجية. لكن قُدّر للملك العربي فيصل الأول، أن يكون نصيبه عراقًا يحكمه، وشعبًا يهجوه، بعد أن أُطيح في بقايا «الأمة الإسلامية».

نصيب الملك المؤسس من التخوين لم يكن عاديًا. فالعميل تارة، والطائفي تارة أخرى، وما بينهما «جهل» أو تصيّد «المثقفين» في تحميله أوزار النخبة وأولويات الواقع حينها. رغم أنه لم يجلس في الإذاعة ويصرخ ويحشّد للثورة، لكنه نال الاستقلال وحالف الدولة المستعمرة، كي لا تنهشه سباع القرن العشرين الجائعة. كما يقول غسان مازن. وأنه -الملك فيصل- لم يملأ الفضاء بشعارات مذهبية أو قومية، بل جلس مع الشاه وعقد معه اتفاقيات رغم العداء الظاهر، وجلس مع أتاتورك وأبرم معه معاهدات رغم التحشيد على الحدود، وجلس مع ابن سعود وهو من أزاح عرش أبيه، وعقد معه صلحًا واتفاقية سلام. لم يلمّح إلى كونه متفضلًا ولو بكلمة، وهو مؤسس دولة العراق الحديث التي كانت في بداياتها أنموذجًا تتغنى به الأمم.

ويمكن القول، نحن شعب لا يعطي فرصة، لكننا نسكت في مواضع يكون فيها الرفض أوجب من السكوت والخضوع والاستسلام للواقع. رغم أن حقبة الملك المؤسس لم يحدث فيها ربع ما حدث بعد 2003 من المآسي!

الحرب العراقية الإيرانية

الأوساط الشعبية والسياسية بعد 2003 تفاعلت مع الحدث تفاعلًا من منظور «هوياتي» لتتحول الذاكرة العراقية بحسناتها وسيئاتها إلى موضع تمييز في البنية الاجتماعية، ليس هذا فحسب، بل إلى أن تكون الولاءات الداخلية منبثقة عن الموقف من الحرب. وما أن تكون عراقيًا ضد أي اعتداء في تلك الحقبة فأنت بعثي بعد 2003 بأثر رجعي. بالمقابل، تبرير المواقف، ومحاولة افتعال شرعية لمعارضة السلطة حينها باستخدام العمق المذهبي بين الشيعة وإيران.

العلم العراقي

تغيّر العلم العراقي خلال عمر الدولة منذ 1920-1921 حتى اليوم ست مرات. وما ذلك التغيير إلا «لعنًا للأسلاف» وتعبيرًا عن تحولات فكرية وأيدلوجية جديدة.

1958-1921: العلم الملكي المستوحى من راية ثورة العشرين.

1963-1958: علم الجمهورية الأولى بعد انقلاب عبد الكريم قاسم.

1991-1963: العلم القومي المتأثر بالجمهورية العربية المتحدة.

2003-1991: علم «أم المعارك» الذي أضاف صدام حسين عبارة «الله أكبر».

2008-2004: العلم المعدّل بعد إزالة خط صدام حسين.

2008 حتى اليوم: العلم الحالي بعد حذف النجوم الثلاث.

ونجد أن تلك التحولات التي عصفت بالعلم العراقي، هي نابعة من فلسفة «لعن الأسلاف».

أسماء الشوارع والساحات

أشار المؤرخ رفعت عبد الرزاق إلى أنه تمت تسمية شوارع بغداد وساحاتها للمرة الأولى في شباط 1932 بقرار من أمانة العاصمة على عهد أمينها محمود صبحي الدفتري بعد تشكيل لجنة تشكلت لهذا الغرض، ومن ضمن أسماء اللجنة الشاعران، معروف الرصافي ومحمد الزهاوي والأب أنساتس ماري الكرملي، وطه الراوي، وعبد اللطيف ثنيان. بعد احتلال العراق في 2003 أعيدت تسمية عشرات المدن والشوارع والمواقع المهمة تبعًا لفلسفة «الأحزاب المذهبية»، التي أزاح لها المحتل، مستبد العراق، صدام حسين.

وعمدت أحزاب «الديمقراطية» إلى رفع عديد من الأسماء التي لا تتفق مع ايدولوجيتها، باستثناء المدن الرئيسة، لتمحو ذاكرة جيل حمل أسماء الأماكن والشوارع التي رافقت مسيرة حياته في الحقبة السياسية السابقة، كي تطلق عليها أسماء جديدة متسقة مع العهد الجديد.

وأود الإشارة إلى إثبات لا يدع في «نظريتي» وهي «لعن الأسلاف» مجالًا للشك، ففي بيان رقم 8 أطلق «حكم الانقلابيين» في 1958 قرارًا يقضي بتغيير اسم نحو 25 موقعًا بين ساحة وشارع وجسر وحديقة، بحسب الوثيقة التي أطلعت عليها.

نص البيان رقم 8

«تجاوبًا مع روح الثورة، وأهدافها في اجتثاث آثار العهد البائد، قرر مجلس الأمانة في جلسته المنعقدة بتاريخ 23/7/1958 تبديل أسماء الشوارع والساحات العامة والحدائق والجسور ومؤسسات الأمانة بالأسماء الجديدة.» توقيع وكيل أمين العاصمة

ومن أبرزها:

شارع الملك غازي إلى شارع الكفاح

شارع الملك فيصل الثاني إلى شارع الوثبة

جسر الملك فيصل الأول إلى جسر الأحرار

حديقة الأمير غازي إلى حديقة الأمة

ساحة الملكة عالية في الباب الشرقي إلى ساحة التحرير

جسر الملكة عالية إلى جسر الجمهورية

قرار أمانة بغداد 2017

أعلنت أمانة بغداد بقرار لمجلس المحافظة في 2017 اعتماد تسمية جديدة لنحو 80 شارعًا وساحة وجسرًا، كما تم الإبقاء على بعض التسميات من الشوارع التي استبدلت أسماؤها مثل:

ومن أبرزها:

شارع ابن تيمية إلى شارع الشافعي

شارع الثورة إلى شارع شهداء الكرد الفيليين

شارع 14 رمضان إلى شارع الزعيم عبد الكريم قاسم

شارع صدام حسين الداخل إلى شارع الحرية

جسر السنك الرشيد إلى جسر السنك

جسر 17 تموز إلى جسر الباب المعظم

ساحة البعث إلى ساحة محمد رضا الشبيبي

ويمكن معرفة لماذا جاء القرار عبر تفحّص الأسماء بدقة!

ثورة أم مظاهرات

تبنّي المصطلحات الاجتماعية والسياسية في العراق كان ولازال يستند إلى أهواء وانحيازات شخصية لم تسلم منها حتى النخبة. وبات توصيف كل حركة احتجاجية يقوم على أساس الأغلبية وأيهم ينجح في تدعيم سرديته بالوسائل الشرعية وحتى غير الشرعية. ومن أزمة 1858 والسجال حول ما إن كانت ثورة أم انقلاب، عاشت ثورة/مظاهرات/ احتجاجات تشرين في 2019 ذات المعاناة. إيجازًا تعني الثورة ذلك الحراك الذي يؤدي إلى تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية تغييرًا جذريًا. وأين ذلك المعنى ممن يريد أن يوصف حركة ما، بالثورة بناء على ما توحيه الكلمة من دلالات ايجابية؟

ميليشيات أم فصائل مقاومة

تبدو معضلة السلاح بعد التحول إلى «الديمقراطية» من أشد ما يعانيه العراق، واصطبغ «السلاح المنفلت» بألوان متعددة، منها المذهبي وبدايته كتشكيل رسمي في 2014 لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي، سبقه تجمعات مسلحة تتبع إلى هذا الزعيم أو ذاك، وآخر عشائري يعيش لينتصر، ويموت لكي يخلّد بأنه مُدافع شرس. لكن الأزمة لم تكن على انتشار مظاهر التسلّح فقط، بل إلى بناء السرديات على أساس طائفي وآخر «مقاوم» لا يعترف بالدولة وقراراتها السيادية.
***

وهكذا عن طريق «لعن الأسلاف»، تغيّرت أسماء المدن والبلدات التاريخية بأسماء جديدة تتفق مع تطلعات القوميين، ومن تلاهم الطائفيين، ومحاولة إعادة كتابة التاريخ بسرديات تتجلى فيها الأوهام، وصناعة رموز جديدة، ليس لأنهم أبطال الجيل الجديد، بل لاستبدال من سبقهم. وتعالت ثقافة الإلغاء والإقصاء التي تمجد الطائفية.

وهذه الثقافة، لم تبدأ من فراغ، ولكن لها تأصيلًا وإرثًا تصاعد ضد «الفكرة العربية» في العراق منذ القِدم. يشير باسم فرات في كتابه «اغتيال الهوية» إلى تكريس السرديات الفارسية المكتوبة بالعربية والتي تلقفها المستشرقون، بوصف العرب بدوًا جياعًا لا يغادرون الصحراء إلا للنهب والغزو. في حين يحدثنا المؤرخ الروماني بليني (توفي 79 ميلادية) عن وجود العرب في مناطق شاسعة من الهلال الخصيب ومصر ويصفهم بـ «الثراء الفاحش» وليس كما اشاعت تلك السرديات الفارسية!

ختامًا، غياب «الاستقرار الهوياتي» وتأكيد الدولة على رموز جامعة، أحداث موّحدة، سرديات وطنية محلية وأخرى تربط العراق بعمقه الحضاري، أفترضُ أنها لو حدثت لما وُجد تناقضٌ وتنافرٌ مجتمعي، ولما اضطررنا إلى «مأسسة الطائفية» ولما أنكرنا تاريخًا، ومجّدنا آخرًا.

لبناء وطن ومواطن

تسعى منصة تغيير الى تعزيز دور المواطن العراقي في المشاركة البناءة في رفع المبادئ الوطنية والمصالح العليا والقيم والإرث والهوية الوطنية الجامعة بالوسائل المدنية.

Scroll to Top