3 تموز 2025

كيف أغلقت «السياسة المقدسة» نوافذ التغيير في العراق؟

تقديم

خلال العقديين الماضيين، «طبّع» النظام السياسي العراقي مع الطائفية غير التقليدية، بعبارة أدق «المكوناتية». وتمهيدًا لما سيتم طرحه، تفترض «المكوناتية» أن هناك حقوقًا سياسية لمركّب هوياتي (طائفي + مناطقي + ثقافوي = المكون)، تستوجب الدفاع عنها، وتضمن الدولة للفاعلين على مختلف الصعد، التعبير عن الحقوق المتخيّلة وبلورتها في برامج سياسية، واجتماعية.

لم تمثّل «الحالة المكوناتية» نموذجًا مشوهًا من الديموقراطية التوافقية فحسب، بل أضحت عائقًا أمام محاولات الإصلاح (أو – و) التغيير في البلاد. ذلك أن المحاولات مجهضة قبل ولادتها، باعتبارها التفافًا على «المكتسبات السياسية» لهذه الجماعة أو تلك، أو مشروعًا ضد «المذهب» وهويته. وتستحضر بالتزامن مع ذلك، المظالم التاريخية، والسرديات المضخّمة، لتبرير خطابها المرتكز على الهوية، في تعارض مشرعن مع مبدأ المواطنة.

وفي سياق تطبيق القانون، ثمّة حرج أمام الهالة المقدسة التي تحيط بـ «المكونات»، إذ أظهر التعامل مع الخطاب الطائفي والتحريضي في الآونة الأخيرة، «خجلًا» حكوميًا من تطبيق القانون، الذي يترتب عليه اعتراضًا صلبًا لا تقوى -الحكومة- على مواجهته من جانب، وارتباطه بـ «التوازنات والسياسية» من جانب آخر. ما كان نتيجته في أغلب الحالات، بما فيها التحريض والإضرار بالأمن القومي والإساءة للرموز الدينية، إغلاق الملف وإهماله، وإطلاق سراح المتهمين بكفالة، أو «لعدم قناعة المحكمة بالتهم الموجهة إليهم».

إبراهيم فاضل
مؤسس منصة تغيير

عندما ترتدي السياسة عباءة المقدس، يتحوّل النقد إلى خطيئة، والمعارضة إلى خيانة. هكذا يبدو المشهد في العراق، إذ تُحاط الدولة ومؤسساتها بهالةٍ قدسية، تصطبغ فيها المشاريع السياسية بطابع المقدَّس الذي يمنع المساءلة والمراجعة. وفي ظلّ هذه الأجواء، يُنظر إلى كل حالة أخرى على أنها تهديد للنظام أو تفريطٌ بـ «حقوق المكون»، فتغيب النقاشات العقلانية وتحلّ محلّها الاتهامات بالتآمر أو «الصهينة». حيث أضحت «الوطنية» -مشروعًا وخطابًا- هي «مؤامرة صهيونية لضرب المكتسبات السياسية أو الهوية».

بعد عقود من «الديمقراطية»، أصبحت الدولة لا بوصفها مجالًا عامًا، بل ساحة للمقدسات الهوياتية. ما جعل المجتمع، وليس فقط المتاجرون بالطائفية من السياسيين، في حالة استنفار دائم باسم الدفاع عن هذا «المكون» أو ذاك. وبعيدًا عن الحلول السحرية، إلا أن الحاجة الملحّة تبرز في تجاوز هذه البنية -في الحديث عن التغيير- نحو عقلانية مدنية تقوم على المواطنة، لا هيمنة القداسة الزائفة.

قداسة الدولة ومشاريع السلطة

في عراق ما بعد 2003، برزت ظاهرة إضفاء القداسة على الدولة ومشاريع السلطة، ويظهر ذلك في المشاريع السياسية ومنطق الجماعات المسلحة، التي اكتسبت طابع «الواجب الشرعي»، فبات المتنفّذون يتعاملون مع مؤسسات الدولة كما لو كانت معابد لا تقبل النقد أو المساءلة.

وبهذا المنطق، يُقمع أي اعتراض بدعوى حماية الثوابت والذود عن المقدسات؛ ويُوصم المعارض بأنه خائن للوطن (الوطن هنا بما يتناسب مع الخطاب المكوناتي) أو مُفرّط بحقوق أبناء طائفته. وهكذا تم تفريغ العملية السياسية من مضمونها النقدي والتعددي، لتغدو طقسًا احتفاليًا لتأكيد الولاءات بدلاً من مساءلة السلطات.

خطاب «حقوق المكون» وإغلاق نوافذ التغيير

يتمثّل خطاب «حقوق المكون» بوصفه نتيجة مباشرة لتلك العقلية التي تقدس الهويات المتخيّلة على حساب المواطنة، ويفترض هذا الخطاب، أن لكل جماعة حصة ثابتة من السلطة تُعتبر «حقًا مكتسبًا» لها؛ وأي مساسٍ بتلك الحصة يُفسّر على أنه اعتداء على جماعة بأكملها. وبهذا المنطق يتحوّل توزيع المناصب والموارد، ليس محاصصة فحسب، بل يسوّق بأنه ضمانة للتوازن والعدالة بين «المكونات»، بينما هي في الواقع آلية لتقاسم مغانم الدولة بين قلّة من المتنفذين.

عمليًا، شلّ خطاب «حقوق المكون» أي جهد إصلاحي حقيقي. فكلما طُرحت مبادرةٌ لتصحيح خلل أو مكافحة فساد في مؤسسة ما، سارع المنتفعون إلى تصويرها كمحاولة لـ «هضم حقوق المكون» الذي يسيطر على تلك المؤسسة. عندئذٍ يُستنفر الرأي العام الفئوي دفاعًا عن «حقّه» المزعوم والمتخيّل، فتتعطّل الإجراءات الإصلاحية قبل أن تبدأ.

ولعلّ أخطر ما في الأمر، هو التطبيع مع المحاصصة، واعتياد القوى السياسية توظيف هذا الخطاب لمآربها؛ فما إن تقترب الانتخابات أو تلوح أزمة حكم، حتى ترتفع التحذيرات من ضياع الحقوق إن لم يحصل تيارٌ أو زعيم معيّن على نصيبه من المناصب. وبالتزامن مع ذلك، يُعاد إنتاج الاصطفاف المذهبي باستثارة المظلوميات التاريخية وتأجيج الهواجس الجماعية، فتشتعل النعرات الطائفية من جديد.

تصدّعات مجتمعية واستنزاف الدولة

أنتج تقديس الهويات شروخًا عميقة في وجدان المجتمع العراقي، فالانتماء «المكوناتي» طغى على الانتماء الوطني الجامع، ونمت مشاعر الريبة وحتى العداء المتبادل بين المواطنين. وصار كل طرف ينظر إلى الآخر كخصم محتمل أو خطر كامن، تغذّيه سرديّات تاريخية وأحقاد مفتعلة. ما قوض -هذا التشظّي- أسس الثقة ومشروع بناء الدولة، ودفع بالكثيرين إلى الانكفاء داخل حدود الهوية الضيقة طلبًا لأمانٍ موهوم.

ولا يقتصر الثمن على تمزّق النسيج الاجتماعي، بل يمتد إلى استنزاف ثروات البلد وإهدار طاقاته. فحين تُدار الدولة بعقلية المتاريس الطائفية، تُسخّر الموارد لإرضاء «زعماء المكونات» وتمويل شبكات الولاء والمحسوبية، بدلًا من توظيفها في مشاريع التنمية والخدمات العامة. وتتفاقم الخسارة حين يُقصى الأكفّاء وأصحاب الخبرة عن مواقع القرار ليحلّ محلهم الموالون عديمو الكفاءة بذريعة «تمثيل المكون».

نحو عقلانية مدنية مواطنيّة

نتيجة ذلك، مؤسّسات مشلولة وخدمات آنية غير مدروسة، واقتصاد على المحك، بينما تبقى الجموع ترزح تحت وطأة معاناة مستمرة تُعزى دومًا إلى «مؤامرات الخارج» وضرورة الدفاع عن الهوية الخاصة. هكذا يُبقينا خطاب القداسة الجماعاتية في حالة طوارئ دائمة تستنزف العقول والموارد، وتمنع أي رؤية وطنية مشتركة من التبلور.

إن الخروج من نفق القداسة الزائفة يتطلّب ثورة فكرية في مفهوم الدولة والمواطنة، وإعادة الدولة إلى وضعها الطبيعي: كيانٌ مدني دنيوي يخضع للمساءلة ولا عصمة فيه لأحد أو لشيء. أي نزع هالة القداسة عن السياسة وإعلاء صوت العقل والمصلحة العامة فوق ضجيج العصبيات والانفعالات. ويمثل تفكيك هالة المقدس عن الدولة شرطًا رئيسًا لإحياء السياسة بوصفها نشاطًا بشريًا قابلًا للنقد والتطوير. وعندما يتحقق ذلك، ستفقد أسلحة التخوين والتكفير السياسي فعاليتها، لينفتح المجال لبناء دولة عمادها المواطنة والحكم الرشيد.

لو تتبعنا التاريخ التطوري للأنظمة الجمهورية العربية، سنجدها قد راكمت تجربة تاريخية حافلة بالتابوهات والمقدسات غير القابلة للمساس. إذ بدأت من القومية العروبية إلى القومية الوطنية إلى الوصاية الإسلامية، وهي كلها مراحل اتسمت بنحر الحريات، تارة على مذبح العروبة، وتارة على مذبح القومية، وتارة على مذبح الوصاية.

بعدما أفرغت أنظمة الجمهوريات العربية -والعراقية خصوصا- قضايا «القومية» و «والعروبة» من محتواها، واستهلكت حتى «القضية الفلسطينية» بالشعارات والهتافات البرّاقة، فقد وجدت في «المقدس» عروة تتشبث بها لمداراة إخفاقاتها واستبدادها.

وسواء جاء سياق الالتفاف حول المقدس على شكل «صحوة إسلامية» أو «حملة إيمانية» فالغرض واحد: تقديس الزعيم أو القائد أو المسؤول. كانت «مرحلة الالتفاف» على المقدس تلك مرحلة ابتدائية. أما اليوم فقد عبرنا نحو مرحلة أخرى.

المرحلة التي نعيشها اليوم ليست «مرحلة التفاف» على المقدس، بل «مرحلة تطويع» للمقدس. إذ يجري تطويع السرديات والروايات والحكايات المقدسة لتخدم طيف سياسي من خلال تنزيهه أو تزكيته أو شرعنة إخفاقاته وعثراته.

عند الدخول في هذا الخندق لا يبقى للهوية القومية الوطنية أي دور، فلا بد من مواجهة الخطاب الديني المقدس بخطاب ديني مقدس آخر يمثل الضد النوعي له. وفي هذه الحالة تذوب الهوية الوطنية في صراع ديني سياسي يتفرع إلى صراعات داخلية مذهبية وفِرقية وطائفية.

لبناء وطن ومواطن

تسعى منصة تغيير الى تعزيز دور المواطن العراقي في المشاركة البناءة في رفع المبادئ الوطنية والمصالح العليا والقيم والإرث والهوية الوطنية الجامعة بالوسائل المدنية.

Scroll to Top