4 أيار 2025

التخوين الممنهج: ثقافة سياسية في عراق ما بعد 2003

تقديم

لم تغب ثقافة التخوين التي واجهت الحراك والمشاريع غير المرتبطة بالسلطة والجهات المتنفذة عن الدول الأخرى، ونحن إذ نقول ذلك، بهدف تحري الموضوعية والابتعاد عن التعميمات غير العقلانية والمنهجية.

استخدمت الأحزاب الطائفية وأدواتها منذ العام 2003 سياسة تخوين الحراك المدني، واتهمت الناشطين والمحتجّين ودعوات الإصلاح والتغيير، بالسعي لهدم الدولة أو خدمة جهات أجنبية، أو وصفهم بأنهم أعداء للمذهب. هذه الثقافة –شيطنة أي حراك غير مرتبط بالأحزاب التقليدية– تهدف بشكل ممنهج إلى تثبيط ونزع الشرعية عن المجتمع المدني بالدرجة الأولى، ومن ثم وسيلة لحشد الرأي العام ضد طرف من الأطراف.

لا يمكن عدّ “التيارات غير الطائفية” منفصلة عن هذا الواقع، والتأكيد هنا على مصطلح “التيارات غير الطائفية” ضرورة لتفكيك الحالة، إذ أن الأحزاب الطائفية تعمد إلى سياسة المحاور، أو “المكونات” لضمان كسب تأييد حتى غير الموالين من نفس الطائفة.

وبالتزامن مع انطلاق أو دعوات تأسيس تيارات مدنية أو مبادرات وطنية، يحاول هذا التحليل الموجز فهم ظاهرة التخوين، محذرًا منها، وينطلق من “العراق الجديد” لقراءة مشهد سياسي، اتسمت فواعله بالارتباك أمام الخطاب الوطني. وتسليط الضوء على أساليب التشكيك في النوايا، ذلك أن أحزاب السلطة، غالبًا ما كانت تطلق الاتهامات بناء على نوايا الآخرين، لا بالدليل ووفقًا للقانون. مع مراجعة الجهات المستفيدة من حملات التخوين، وكيف تسهم في إدامة الانقسامات الطائفية، والإبقاء على الفساد، والتحشيد والتحشيد المضاد.

الخلفية

بعد العام 2003، انفتح المجال العام في العراق، وتصاعدت المطالبات بشكل تدريجي بالإصلاح ومحاربة الفساد وتحسين الخدمات بعيدًا عن الأطر الطائفية، غير أنّ هذا الحراك وجد نفسه في مواجهة كتلة صلبة، نواتها الطائفية، وهدفها الحفاظ على مكتسباتها، وتعاملت بريبة مع أي صوت معارض. ومع أوائل محاولات التظاهر السلمي (مثل احتجاجات العام 2011 في بغداد وعدد من المحافظات)، بدأت ملامح خطاب التخوين تظهر.

إذ لجأت حكومة نوري المالكي آنذاك إلى التحذير من “المندسين والمؤامرات الإرهابية” وقال المالكي عن مظاهرات جمعة الغضب في بغداد إن من “سيخرج في المظاهرة معادون للديمقراطية وينتمون إلى البعث والقاعدة”. كان هذا النهج المبكر مؤشرًا على استراتيجية ستتكرر لاحقًا، وهي ربط الحراك المدني بعناصر تخريبية أو إرهابية تبريرًا لقمعه.

وفي العام 2013 شهد العراق موجة من احتجاجات طالبت بإنهاء الإقصاء والإفراج عن المعتقلين، قوبلت بخطاب تخويني حاول وصم المحتجين بخدمة أجندات خفية. فقد صوّرهم خطاب الحكومة آنذاك، على أنهم بعثيون وإرهابيون متخفّون، ما أفقدها التعاطف من جانب جمهور المحافظات الأخرى. وهكذا نجحت السلطة في تأطير الاحتجاج على أنه مؤامرة طائفية، الأمر الذي عمّق الانقسام المجتمعي وبرّر الإجراءات القمعية. وفي الوقت ذاته، كان المالكي يحذّر عبر الإعلام من “حرب طائفية” إذا استمر الحراك، ملقيًا باللوم في أي عنف يحدث على “فلول حزب البعث”.

وهكذا تشكّلت “ثقافة سياسية” مفادها أن كل حراك مدني هو على الأرجح فتنة أو مؤامرة يُحرّكها عدو، وليست تعبيرًا عن تطلعات المواطنين.

تصاعد الحراك المدني وأساليب التشويه

شهدت السنوات 2015 – 2018 موجة متجددة من الاحتجاجات شملت بغداد ومحافظات أخرى، رافقتها مطالب إصلاحية تتضمن مكافحة الفساد وتحسين الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء. تميّزت احتجاجات 2015 – التي اندلعت في زمن حكومة حيدر العبادي– بسلميتها وبمشاركة تيارات متنوعة، وحظيت حينها بدعمٍ واضح من شخصيات دينية، ما وفّر لها غطاءً سياسيًا جزئيًا. ورغم ذلك، لم تغب نبرة التخوين تمامًا عن مشهد تلك الفترة. فقد سعت بعض الجهات التي تعتقد أن الحراك يستهدفها، لا سيما الموالية لسلف العبادي، وبعض الفصائل المسلحة ذات النفوذ، إلى تشويه سمعة الناشطين المدنيين عبر اتهامات تفيد بأن وراءهم “جهات خارجية” أو “تمويل مشبوه”. انتشرت آنذاك على منصات التواصل اجتماعي حملات تشكيك في نوايا منظمي المظاهرات، وترويج لفكرة أن السفارات الأجنبية -الغربية خصوصًا- تدعم هذا الحراك لغايات خفية.

لم تكن هذه الحملات هامشية، بقدر ما أصبحت عرفًا يتناقله أنصار الأحزاب المتضررة لتقليل زخم الشارع. وقد ساعد على ذلك استخدام ما يُعرف بـ “الجيوش الإلكترونية” التابعة لأحزاب متنفذة لبث الإشاعات ضد الناشطين. وهذه ممارسة أكدتها شهادات ناشطين، وذكرت إحدى الناشطات أن “الأحزاب الفاسدة دفعت بجيوشها الإلكترونية لتشويه سمعتها عبر فبركة صور لها خلال مشاركات سابقة في أنشطة ممولة من منظمات دولية، ثم اتهامها بالعمالة”.

اللافت أن هذه الاتهامات لم تقتصر على جانب الولاءات السياسية، بل إلى التشهير الأخلاقي، خاصة ضد النساء. فقد وثّقت التقارير موجة قمع إلكترونية استهدفت نساء مشاركات في الحراك عبر المساس بشرفهن، والتحريض على قتلهن. وليس انتهاء بموجة التشهير ضد الرافضين لتعديل قانون الأحوال الشخصية. مثل هذه الأساليب تؤشر أيضًا إلى أن التخوين تغلغل كثقافة مجتمعية أيضًا، يتم ترويجها لدى الرأي العام، لجعله يشكك في أي شخصية مدنية بارزة أو مبادرة وطنية، ما أدى إلى قولبة المجتمع واستخدامه كأداة سياسية لمواجهة الخصوم.

ثورة تشرين 2019

تميّز حراك تشرين بأنه عابر للطوائف، وأنه جاء عفويًا مستقلًا عن الاصطفاف الضيق، كما اتخذ الحراك منحىً وطنيًا شاملًا برفضه العلني للتدخلات الخارجية في العراق، وتحديدًا النفوذ الإيراني، إلى جانب رفضه أي عودة للاستبداد أو المحاصصة.

هذا الزخم الشعبي الكبير واجهته الأحزاب التقليدية وأدواتها الإعلامية والفصائل المسلحة بموجة تحريض غير مسبوقة، إذ شعرت أنها على وشك فقدان قبضتها على السلطة. ولم يقتصر ردها على القمع المادي العنيف الذي أوقع مئات الشهداء وآلاف الجرحى، بل أطلقت أيضًا أوسع حملة إعلامية تخوينية شهدها العراق بعد 2003. يمكن القول إن هذا النمط من الخطاب، بلغ ذروته خلال وبعد تشرين 2019، واتخذ أشكالًا متعددة:

1- اتهام العمالة والتآمر مع الخارج: صوّرت الرواية المهيمنة على قنوات الأحزاب الموالية لإيران، وكذلك التصريحات الإيرانية الرسمية، ثورة تشرين كمؤامرة دبّرتها “أميركا وإسرائيل ودول خليجية” لضرب “وحدة الصف الشيعي”. على سبيل المثال، وصف المرشد الإيراني علي خامنئي احتجاجات العراق ولبنان أواخر 2019 بأنها “أعمال شغب يديرها الأمريكيون والصهاينة”. كذلك روّجت منصات إعلامية تابعة للفصائل المسلحة لفكرة “المؤامرة الكبرى” خلف الاحتجاجات. حيث وثّقت دراسات كيفية تبّني وسائل إعلام “محور المقاومة” مصطلح “الجوكر” وتحويله إلى سلاح دعائي، ينطلق من تأكيد مفاده أن الحراك مؤامرة مرتبطة بالغرب.

2- اتهامات البعثية والإرهاب: إلى جانب العمالة للغرب، لجأت بعض الجهات في السلطة إلى فزّاعة حزب البعث المنحل وتنظيم داعش الإرهابي، في محاولة لاستثارة مخاوف منبثقة عن تجارب لدى الشارع من عودة البعثيين والدواعش.

3- التشهير الأخلاقي: تضمنت حملة الشيطنة أيضًا محاولات لضرب مصداقية ناشطين، وقادة رأي بارزين باتهامهم علنًا بالفسق أو الإلحاد أو خيانة الوطن. وتعرّضت رهام يعقوب (وهي طبيبة وناشطة بارزة في احتجاجات البصرة) إلى حملة شعواء قبل اغتيالها عام 2020، حيث اتُهمت بالعمالة للسفارة الأمريكية، فقط لأنها ظهرت في نشاط أقامته القنصلية في البصرة. حتى بعد اغتيالها، تمادى البعض باتهامها عبر الإعلام بأنها “عميلة” في تبرير ضمني للجريمة. كما نشرت وكالة مهر الإيرانية اسمها ضمن قائمة تضم نشطاء البصرة متهمةً إياهم بـ “التآمر مع السفارة الأمريكية لإثارة الشغب والتأثير على الوجود الإيراني”.

مستفيدون

بغض النظر عن الطبقة السياسية التقليدية والفاسدون، تأتي أيضًا في سياقات أخرى جهات ترى في الحراك المدني العراقي تهديدًا مباشرًا لنفوذها. كالميليشيات والفصائل المسلحة، خاصة تلك الموالية للخارج. هذه الفصائل تبنّت خطاب التخوين بشراسة لسببين، أولاً لأنها كانت في طليعة من استهدفتهم القيم العليا التي أكدت عليها ثورة تشرين (باعتبارهم جماعات خارج سلطة الدولة ومتورطة في الفساد والعنف)، وثانيًا لأن راعيها الإقليمي تبنّى علنًا رواية المؤامرة الخارجية كما أسلفنا.

ولعل وجود سجون سرية تديرها الميليشيات لاحتجاز وتعذيب ناشطين مختطفين يشير إلى مدى اعتبارهم لهؤلاء أعداءً للوطن وفق سرديتهم الخاصة. في المقابل، كان اعتقاد بأن أي حراك “شيعي” على أنه مدفوع من إيران، ما عمّق الاستقطاب وأعاد إنتاج الحاجة لجهات سياسية أو تماهيًا مع متطرفين لحماية “المكون السني أو الشيعي”.

هندسة المشهد السياسي

على امتداد أكثر من عقدين، أصبحت ثقافة التخوين وشيطنة الحراك المدني جزءًا من هندسة المشهد السياسي في العراق، ذلك أنها تكسب طابعًا مركزيًا بسبب ارتباطه بالبنية الطائفية للأحزاب الحاكمة.

لقد واجه الحراك المدني -المفترض أن يكون علامة مشرقة في أي ديمقراطية– بالقمع المادي والمعنوي تحت غطاء اتهامات الخيانة الوطنية، وأحيانًا عدّهم أعداءً للمذهب. وأسهمت هذه الثقافة في تأليب العراقيين ضد بعضهم البعض كلما تعالت المطالب بوطن أفضل. إن المستفيد الأول من ذلك هم أمراء الطوائف، الذين أتقنوا لعبة شد العصبيات، والهروب إلى الأمام بخلق عدو متخيّل كلما واجهوا ضغوطًا شعبية.

لبناء وطن ومواطن

تسعى منصة تغيير الى تعزيز دور المواطن العراقي في المشاركة البناءة في رفع المبادئ الوطنية والمصالح العليا والقيم والإرث والهوية الوطنية الجامعة بالوسائل المدنية.

Scroll to Top