28 نيسان 2025
الزبائنية ومؤسسات الدولة: رحلة السقوط البطيء
تقديم
التأكيد الرسمي على انخفاض نسبة البطالة في العراق، يعكس تأكيدًا في ذات الوقت على سوء التخطيط، وهو -التخطيط- بوصفه قائمًا على اجتهاد الحكومات المتعاقبة. فهؤلاء الـ 16.5% الذي انخفضوا إلى 13.5% تجدونهم في برامج الرعاية الاجتماعية، والتعيين العشوائي، والتوظيف الزبائني الحزبي، بعناوين وظيفية هامشية كالعقود، أو الأجور اليومية.
وهم أيضًا، تجدونهم في الاحتجاجات المطلبية، الثائرة لـ “تعديل سلّم الرواتب، زيادة المخصصات، قطع أراضي”. هؤلاء المطالبين بالمساواة الوظيفية، لا يمّكن عدّهم نجاحًا يستوجب تأكيد انخفاض معدل البطالة، بل جموعًا غاضبة، متذمّرة، لا ترى نفسها أمام عدالة التخطيط المزعوم. لست من أقول ذلك، بل الشارع المحتجّ بين الحين والآخر، ومستوى الإنتاجية في المؤسسات، هذا إن جاز وصفها في هذا السياق بـ «المؤسسات».
الخلفية
أدى اعتماد ما يسمى «النظام التوافقي» بعد 2003، الذي ظهر في مجلس الحكم المقسّم طائفيًا، إلى إخضاع المناصب الإدارية العليا لتوافقات الأحزاب السياسية، ما أضعف استقلالية الجهاز الإداري وساهم في تسييسه. هذا التسييس أتاح لتلك الأحزاب توزيع المناصب والوظائف الأخرى على أساس الولاء والطائفة، ورسّخ ذلك التوظيف الزبائني كأداة لإعادة توزيع السلطة والموارد. وتؤكد الدراسات أن التوسع غير المستدام في رواتب القطاع العام في العراق اعتمد على المحسوبية السياسية من جهة، وحاجة المواطنين إلى فرص عمل من جهة أخرى، ليكون أهم ما ينتج عنه:
- تضخم غير منتج في القطاع العام
- انخفاض الكفاءة الإدارية
- تفاقم الفساد والمحسوبية
- إضعاف آليات الرقابة والمساءلة
إنتاج منظومة الأحزاب التقليدية
قال السفير العراقي غازي فيصل إن “المعايير الحزبية والمحاصصة الحزبية والطائفية هي التي تُوزع على أساسها المناصب، سواء على صعيد الوزارات أو الدرجات الأولى أو الخارجية، كالسفراء والدبلوماسيين، وكذلك القوات المسلحة والقبول فيها واختصاصاتها المختلفة، والأجهزة الأمنية”. فيما أشار إلى أن ذلك ” يمر عبر الأحزاب، لأنها تعتقد أن تعيين الشباب، هو أمر مهم على صعيد الانتخابات، بما يضمن بقاءها في السلطة، رغم مختلف المشاكل الكبرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في البلد، مثل انتشار الجريمة، والمخدرات، وتبييض الأموال، والشركات الوهمية، والعقود الوهمية، ومختلف المظاهر السلبية الخطيرة”.
في حين أكد الباحث والأكاديمي حيدر الجوراني أن التوظيف الزبائني يمثل “وسيلة لإعادة إنتاج منظومة الأحزاب التقليدية لنفسها، وذلك لأنها عجزت عن خلق قواعد جماهيرية لإيديولوجيتها منذ تغيير النظام 2003، إضافة إلى عدم امتلاكها منذ ذلك الحين رؤية تنموية تحقق نقلة نوعية في الاقتصاد العراقي الريعي”. مشيرًا إلى أنه ونتيجة لذلك، تكون الطبقة السياسية التقليدية في “حالة إدمان على الاقتصاد الريعي لتغطية موازنات تشغيلية لبطالة مقنّعة تكاد تكون معدلاتها الإنتاجية لا تتجاوز 20 دقيقة في اليوم الواحد، في حين أن العراق يصنّف بالمرتبة الأولى عالميًا من حيث أعداد الموظفين الحكوميين”.
وحذر الجوراني من أن الطبقة السياسية “ما لم تفكر في صناعة سياسات تحدث تنويعًا في الدخل القومي العراقي، سوف تبقى فرص الاستثمار محدودة، بالإضافة إلى أن التوظيف الزبائني هو طمر لرأس المال البشري”. مؤكدّا أن العراق لديه “إمكانات هائلة للاستثمار، لكن من دون إرادة سياسية واقتصادية ستكون ظاهرة احتجاج القطاعات الحكومية، متكررة وربما قد يتم تجييرها سياسيًا في المستقبل”.
تكاثر عددي وتناقص في الجودة والرصانة
ويرى الباحث شُبّر عبد الوهاب أن “السلطة في العراق أدركت أن أحد أهم أسس بقائها طويًلا في الحكم هو بتوسيع شبكاتها الزبائنية في مؤسسات الدولة، ولهذا نجد اليوم رغبة الفرد العراقي وطموحه لا أن يرتقي بواقعه المعيشي أو أن ينظر إلى تجارب الدول التي تحيطه، في مستوى الرفاهية، بل جلّ ما يفكر به، هو الحصول على وظيفة حكومية يتقاضى منها أجرًا بخسًا لا يكفيه أن يتجاوز به أيامه الأولى من الشهر”. وتابع القول، “لذلك أصبح الموظفون ضمن الشبكات الزبائنية بآلاف، بالتالي تكاثر عددي، وتناقص في الجودة والرصانة”.
ويقول عبد الوهاب إن “من وصف الوظيفة بالملاذ الآمن الوحيد، هي التقنيات التي تصنعها السلطة في العراق، لإخضاع الأفراد لها، كونها المتحكمة في الاقتصاد، وأي عملية تستهدف الراتب المقدس للموظف، فقد نشهد تهديدًا حقيقيًا لتلك الحكومة عبر سلسلة من الاحتجاجات”. مؤكدًا أن “الدولة هي التي أغرقت نفسها بمطب التوظيف الذي لم تحاول أن تجد له حلول حقيقية، بدعم القطاع الخاص وتحسين مستوى التعليم، والعمل على ايجاد خطة عمل صالحة، ترتقي بالفرد العراقي بعيدًا عن استخدامه بشبكه زبائنية “.
في السياق ذاته، قال الباحث حسين العظماوي إن “الزبائنية الوظيفية – الخدماتية، أسهمت في تعزيز نفوذ بعض القوى السياسية، وانعكس ذلك بشكل مصلحي على وضعها في الانتخابات”. وبحسب العظماوي فإن هذا النهج أثر “سلبًا على مبدأ المساواة، ويسهم في تهميش الكفاءات والمختصين والأكثر استحقاقًا، كما يعزز من البيروقراطية داخل مؤسسات الدولة، ويخلق تفاوتًا وهرمية بين موظفي الدولة”.
دكاكين تعتاش منها الأحزاب
أما في تداعيات التوظيف الزبائني، يحدد الباحث أثير الشرع جملة من المظاهر، مؤكدًا أن “مسألة التعيين في دوائر الدولة وفي جميع الوزارات كانت توافقية، على سبيل المثال، نلاحظ بوضوح افتقار المدارس للمختصين في المواد العلمية، إذ أن أكثر التعيينات تذهب وفق المحاصصة، وهناك تعيينات تتجاهل المعلمين والمدرسين، لتذهب الدرجات الوظيفية إلى الإداريين أو الخدميين، ما يترك المدارس خالية من الكفاءات التعليمية”.
وبشأن الكفاءات قال الشرع إن “أصحاب الشهادات من التكنوقراط المختصين، ممن ليس له جهة سياسية تدعمه، لا يتم تعيينه، إلا في حالات نادرة واستثنائية. لا توجد إرادة حقيقية لتعيين الكفاءات، بسبب الدواعي الانتخابية وما يُسمى بالاستحقاق الانتخابي أو السياسي، وهو ما يمثل طامة كبرى، فالعرف السائد في العراق هو التوافق، وإذا ما استمر هذا العرف، واستمر مبدأ هذا لك وهذا لي، فإن بعض الوزارات ستبقى دكاكين تعتاش منها الأحزاب والشخصيات السياسية”. ويوضح الشرع أنه “عندما يتم اختيار وزير معين، يُؤخذ منه صراحة تعهد بأنه سيعمل ضمن توجهات الحزب أو الكتلة أو الجهة التي أتت به، وكذلك الأمر بالنسبة لتعيين وكلاء الوزراء، وحتى في الدرجات الوظيفية الأخرى، الأمر الذي لا يُنتج كفاءة ولا يُولّد حرصًا على مصلحة العراق، بل يولد حرصًا على الحزب أو الكتلة أو الجهة السياسية، وإذا استمرت التعيينات بهذه الطريقة، وبهذه المجاملات وعلى حساب الشعب العراقي، فإن هناك انهيارًا كارثيًا للدولة العراقية خلال السنوات القادمة”.
يشكل الشباب نسبة 60% من الشعب العراقي بحسب وزارة التخطيط، وهذه النسبة الكبيرة من الشباب، يمثلون قوى مؤهلة للعمل في المجتمع، وتحتاج إلى سوق يحتويها، فالعمل هو الهمّ الأساسي للشباب لبناء مستقبل مستقر، إلا أن واقع التوظيف في مؤسسات الدولة -على الرغم من كونه يوفر مستوى مادي معين ومكانة اجتماعية جيدة للشباب- إلا أنه يسهم في الوقت ذاته بتحويل هذه الطاقات الشابة إلى جماعات استهلاكية غير منتجة، وهذا ما قامت به الحكومة عند إطلاقها موجة التعيينات الجديدة في موازنة 2023، لتبلغ رواتب المعينين الجدد أكثر من 21 ترليون دينارعراقي بتعيين حملة الشهادات العليا والأوائل وتثبيت العقود والمحاضرين، ما أسهم في رفع نسبة العجز في الموازنة العامة.
المشكلة الأساسية في سياسة التوظيف الجديدة -التي اعتمدتها الحكومة- هي غياب التخطيط، إذ سمحت لمن لديه عمل في القطاع الخاص بالحصول على وظيفة حكومية، وبالتالي لم تحلّ مشكلة البطالة، بل رفعت نسبة الترهل الوظيفي من دون سياسة توظيفية تأخذ بنظر الاعتبار دور القطاع الخاص.
اتضح لدى الشباب بعد دخولهم واندماجهم في بيئة العمل الحكومية، عمق مشكلة البيروقراطية وصلابة الوسائل والسياسات التقليدية، التي يصر على استخدامها مسؤولي وموظفي الوزارات، وأن هناك شعورًا بالإحباط تولد لديهم، نتيجة إلى عدم قدرتهم على إحداث أي نوع من التغيير.
الكثير من الشباب حينما دخلوا العمل الوظيفي الحكومي كانوا يحملون معهم آمالًا بأنهم سيكونون قادرين على إحداث تغيير في النظام الوظيفي، إلا أن الواقع بدا مختلفًا تمامًا، إذ لم تحاول الدولة استثمار الشباب الداخلين إلى المؤسسات بحماس وشغف للعمل والتغيير، ذلك أنهم وجدوا أنفسهم يقومون بأعمال إدارية لا تمت لتخصصاتهم بصلة، فقد عمد مجلس الخدمة الاتحادي إلى توزيع الوظائف حسب حاجة الوزارات من الأعداد وليس من التخصصات، ما أدى إلى عشوائية في اختيار الموظفين الجدد دون النظر إلى تطابق الاختصاص مع العمل الذي يقومون به.
يشعر أغلب الشباب، أن تعيينهم في مؤسسات الدولة لم يكن نابعًا من حاجة فعلية في هذه المؤسسات لموظفين جدد، بل أن المؤسسات مكتظة بالموظفين في مقابل عمل إداري روتيني لا يستدعي هذه الأعداد، فضلًا عن الإشكالية المهمة في ذلك، المتعلقة في استراتيجية الحكومة في التعيين والتوظيف، التي تقوم على أساس عامل الشهادة الجامعية فقط، دون الاكتراث إلى معايير المهارات والمؤهلات الشخصية والعملية التي يتمتع بها الاشخاص، والتي لابد أن تجري على أساسها عملية المفاضلة في التعيين والتوزيع بالمهام والأعمال.
يعتقد الشباب أنه لم تكن هناك استراتيجية حكومية واضحة في توظيفهم، حتى من الناحية اللوجستية، والبنى التحتية لمؤسسات الدولة التي تشكو من الإهمال، وعدم توفير تخصيصات مالية، الأمر الذي زاد الأمر سوء بالنسبة لظروف العمل للمعينين الجدد، إذ يشكو الشباب من عدم وجود مكاتب تكفيهم وحتى الطاولات والكراسي يتناوبون الجلوس فيما بينهم كلما وجدوا مكانًا فارغًا. يقول «م.ك» إن “المكاتب التي نعمل فيها متهالكة وتفتقر للذوق، والأثاث قديم و بعضه مكسر، فضلًا عن عدم توفير المستلزمات الأساسية، مثلًا في هذا الجو الحار الذي تصل فيه درجات الحرارة الى أعتاب الخمسين نعتمد في التهوية على مكيفات هواء قديمة ولا تعمل في مكاتب مكتظة بالموظفين، و من أجل أن نطلب أبسط مستلزمات العمل علينا أن نقدم طلب وهذا الطلب يمر بإجراءات طويلة قد تصل إلى أشهر عديدة للحصول على الموافقات بالصرف والشراء”.
الأمر الآخر، بدأ الآن بشكل واضح في مؤسسات الدولة بعد موجة التعيينات الجديدة، بوجود نوع من الشعور بالتنافس وعدم الانسجام بين جيلين من الموظفين، الجيل القديم الذي اعتاد على نمط معين من العمل، والجيل الجديد الذي يرغب بتغيير هذا النمط إلا أنه يصطدم بمنظومة محكمة الإغلاق فكريًا وإداريًا.
إن حلّ مشكلة التوظيف، يتطلب تغيير بيئة الأعمال في العراق تغييرًا حقيقيًا، لأن وضع الاستراتيجيات الاقتصادية غير كاف، من دون أن تكون هذه الاستراتيجيات قائمة على أسس واقعية، ولا يمكن حلّ مشكلة التوظيف من دون إشراك القطاع الخاص كشريك أساسي، إلا أن هذه المهمة تتجاوز قدرة القطاع الخاص الحالي بكثير، فالمتطلبات والاشتراطات والإمكانات ذات الصلة بخلق هذه البيئة ليست اقتصادية فقط بل مؤسسية، قيمية، سلوكية وثقافية.
لبناء وطن ومواطن
تسعى منصة تغيير الى تعزيز دور المواطن العراقي في المشاركة البناءة في رفع المبادئ الوطنية والمصالح العليا والقيم والإرث والهوية الوطنية الجامعة بالوسائل المدنية.
